الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

أزمات العالم الراهن: الخلفيات والسياقات
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

“ديفيد موتاديل” مؤرخ وباحث سياسي بريطاني معروف، له كتاب منشور عن الإسلام والمسلمين في العهد النازي، كتب مؤخرًا مقالة هامة حول أزمات العالم الراهن في صحيفة “الغارديان” الإنجليزية بالرجوع إلى خلفياتها التاريخية والمجتمعية العميقة. بالنسبة للكاتب، يسود شعور واسع بأن البشرية دخلت في منعرج حاسم من تاريخها، من سماته الظاهرة صعود القوى الاستبدادية غير الديمقراطية حتى في قلب الساحات الليبرالية العريقة، وانفجار الحروب، وأنواع الصراع والتوتر في مناطق كثيرة من العالم وانبثاق ثورة صناعية وتقنية جديدة من شأنها إحداث تغيير نوعي في طبيعة ونمط الوجود الإنساني.

صحيح أن العالم الحديث عرف خلال القرون الثلاثة الأخيرة تغيرات جوهرية فرضت قطائع حاسمة في مسار الإنسانية، من أهمها الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر بانعكاساتها البنيوية على الساحة الأوروبية الواسعة، كما أن العالم عرف في النصف الأول من القرن العشرين حربين مدمرتين غيرتا مجرى النظام الدولي بكامله.

إلا أن نغمة التفاؤل ظلت قائمة رغم الدمار والحروب، وهكذا دشّن عصر الثورات أملًا واسعًا بالتغيير الديمقراطي الإيجابي عمّ القارة العجوز وغيرها من بلدان العالم، كما أن الحرب الأخيرة ولدت نظامًا دوليًا جديدًا قائمًا على الشراكة والأمن الجماعي والتضامن بين الأمم هو نظام هيئة الأمم المتحدة بمؤسساتها المتخصصة العديدة. وبعد نهاية الحرب الباردة، اعتقد الكثير أن التاريخ انتهى (مثل الكاتب الأمريكي “فرنسيس فوكوياما”) وأن العصر الليبرالي الكوني قد أظلّ العالم برمته.
ما يجري اليوم حسب الكاتب لا يمكن ضبطه من خلال الأحداث الاستعراضية الجارية التي تشغل الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، بل لا بد من قراءته في ضوء الموجات البنيوية طويلة المدى التي توجه نظرنا إلى ظواهر هامة تستدعي الانتباه، من بينها: انفجار النزعات القومية والوطنية الانكفائية والمغلقة، وطغيان التصورات العصبية الضيقة بمرجعياتها الثقافية الجامدة، وصعود التيارات النيوليبرالية التي تبرر وتشرّع أسوأ أنواع التفاوت الاجتماعي، وانهيار النظام القانوني الدولي الذي تخلّت عنه القوى العالمية التي وضعته ودافعت عنه من قبل.

ولا يمكن دحض أطروحة “موتاديل” التي تستند إلى أمثلة ملموسة وحية من الواقع الراهن، لكن يمكن تقديم أربع ملاحظات كبرى بخصوصها:

أولًا: عند الحديث عن السردية التاريخية الطويلة، لا بد من الحديث عن جذور الأزمة العميقة في نموذج الصعود الأوروبي كما رصدها الفيلسوف السويسري المعروف “جان جاك روسو” في أوج عصر الأنوار والتحديث. لقد لاحظ “روسو” أن مثال الحرية والاستقلالية الذي قامت عليه الحداثة الأوروبية يعاني من خللين مترابطين هما من جهة التصدع الخطير في بنية الوعي الذاتي بين اعتبارات الهوية الخصوصية ومقتضيات النظام الجمعي كما تترجمه الحالة المدنية السياسية، ومن جهة أخرى ما تطرحه الذاتية نفسها من إشكال داخلي على خط التمايز بين الحميمية الخالصة العصية على التواصل والمشاركة الإيجابية الفاعلية التي هي المضمون الملموس للحرية وان كانت معرضة دومًا للتفويت والاستيعاب في نظم اجتماعية شاملة ليست بمنأى عن الإكراه والضغط. ومن دون الرجوع إلى الجدل الفلسفي الاجتماعي الذي ولدته ملاحظة “روسو” الهامة، نكتفي بالإشارة إلى أن هذا التصدع المزدوج هو ما نشهد آثاره القصوى حاليًا من خلال الانزياح بين النزعة الليبرالية الفردية التي لم تعد قابلة للقولبة السياسية والحزبية، والتوجهات الشعبوية التي لا تحتفظ من الديمقراطية إلا بآليات المشاركة والانتخاب وتحاول من خلالها القضاء على نظام توازنات السلطة ومقتضيات التعددية السياسية والثقافية في مجتمع فردي متنوع (الديمقراطية غير الليبرالية بلغة رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان).
ثانيًا: مع أن فلاسفة الحداثة منذ “هوبز” و”كانط” بينوا الترابط العضوي بين التدبير القانوني الداخلي للمجتمعات السياسية واعتبارات تمديد المعايير القانونية إلى خارطة العلاقات الدولية، إلا أن مسار قوننة الديبلوماسية العالمية ظل هشًا ومتقلبًا رغم مكاسب النظام الأممي المتولد عن الحرب العالمية الثانية. وبعد سنوات قليلة سادت فيها طوبائية الشرعية الدولية الكونية (في مختلف المجالات وبصفة خاصة الميدان الجنائي والحقوقي)، ها هي القوى المؤثرة عالميًا ترجع بوضوح عن فكرة المنظومة القانونية الإنسانية الواحدة. لقد بدأ هذا المسار بحروب البلقان والشرق الأوسط ثم أوكرانيا التي تمت خارج أي غطاء شرعي دولي، وبدا أن المعايير اللاهوتية القديمة للحرب العادلة عوضت مبادئ ومعايير القانون الدولي بينما ظهر أن العالم يسير في اتجاه استراتيجيات تقاسم النفوذ بين القوى المهيمنة خارج أي محددات قيمية أو شرعية.
ثالثًا: بعد هيمنة أوروبية (غربية) طالت قرونًا ثلاثة، يشهد العالم اليوم صراعًا حادًا بين القوى والأطراف التي وضعت شروط وقواعد النظام الدولي والدول والأمم الصاعدة شرقًا وجنوبًا التي يطلق عليها في بعض الأدبيات “الجنوب الشامل”. لهذا التصدع جوانبه الاقتصادية الاستراتيجية التي تظهر في عدد من المبادرات من بينها قيام مجموعة “البريكس” التي اتسعت نوعيًا في الآونة الأخيرة، كما له جوانبه الأيديولوجية والسياسية التي تبرز في عدد من الأدبيات التي تتحدث عن خصوصيات الحضارة “الأوروآسيوية” وشكل الديمقراطية السيادية في روسيا والصين، والدول الحضارية الآسيوية في مقابل الدولة القومية الغربية وغيرها. ولا شك في أن هذا الصراع ما يزال في طوره الأول، وسيكون له وقع هام في المستقبل القريب.
رابعًا: لقد ساد في بداية الألفية الجديدة انطباع بأن الثورة التقنية الصناعية الجديدة القائمة على الطفرة الاتصالية والذكاء الاصطناعي ستفضي إلى حالة جديدة من الكونية الإنسانية المندمجة أطلقت عليها عبارة العولمة. إلا أن الجدل تصاعد في السنوات الأخيرة حول هذه الديناميكية التي يبدو أن القوى والمجتمعات غير الغربية استفادت منها في كسر الهيمنة الغربية. وهكذا؛ نلمس اليوم موجة عداء ظاهر لحركية العولمة وما تتأسس عليه من أفكار التبادل الحر والتنقل المفتوح، بما بلغ مداه في سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة.

إن هذه الملاحظات الأربع تحيل إلى ما نعتقد أنه الخلفيات الحقيقية والعميقة للتحولات الدولية الراهنة.