تحدثت مرة عن اختفاء ما سميته “الكتاب الحدث”، أي الكتاب الذي يشكل عند صدوره حدثًا فكريًّا وعلميًّا بارزًا، له أثره الحاسم في الحياة الثقافية .
قد يكون هذا الكتاب استفزازيًّا، لكنه ليس بالضرورة كذلك، فالعبرة في ردة الفعل والتأثير واتساع الاهتمام.
من بين هذه الكتب مثلًا كتاب الفقيه الأزهري علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” الذي عندما صدر عام 1925 خلّف هزة كبرى في الثقافة العربية الإسلامية، من حيث أطروحته التي تزامنت مع انهيار الخلافة العثمانية، وقد اعتبر المؤلف أن الدولة ليست من أهداف الإسلام أو مقاصده وإنما هي حالة سياسية تدبيرية تتعلق بها مصالح الناس المتغيرة ولا علاقة لها بالشريعة من حيث هي عبادات، وقيم وأخلاق.
لا تهمنا أطروحة عبد الرزاق في ذاتها التي تبدو اليوم بسيطة ومألوفة بعد مرور قرابة قرن على صدورها، وإنما السياق الذي برزت فيه وردود الفعل الواسعة التي خلفتها .
فمن المعروف أن عددًا هامًا من كبار العلماء والفقهاء ردوا على كتاب “الإسلام وأصول الحكم” من بينهم شيخ الأزهر أوانها محمد الخضر حسين، والمفتي محمد بخيت المطيعي، بالإضافة إلى الفقيه التونسي الطاهر بن عاشور، في حين انحاز للأطروحة مفكرون بارزون من بينهم عباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل.
ومن الجلي أن النقاش الذي خلفه الكتاب تمحور حول طبيعة النظام السياسي في الإسلام، بتحديد هل تشكل الدولة (وفق صيغة الخلافة) ضرورة أو واجبًا شرعيًّا أم هي حالة سياسية مدنية ليس للدين بها شأن .
لقد اتجه النقاش في بعدين: أولهما عقدي ديني تركز في الجدل القديم حول الإمامة ومرجعيتها الشرعية، وثانيهما تاريخي يتعلق بتجربة الخلافة الإسلامية وما تتأسس عليه من فكرة وحدة الدار والعقيدة، وبالتالي كيف يمكن التعامل شرعيًّا مع نموذج الدولة الوطنية التي قامت على أنقاض الخلافة .
وعلى الرغم من مرور قرابة قرن على الكتاب لا تزال هذه الإشكالات مطروحة بقوة في الفكر الإسلامي الحاضر .
أما المثال الثاني على الكتاب الحدث فهو كتاب المفكر المغربي عبد الله العروي “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” الذي صدر بالفرنسية عام 1967 وصدرت ترجمته العربية الأولى سنة 1970.
كان الكتاب حدثًا فكريًّا بارزًا رغم أن مؤلفه الشاب المغربي لم يكن معروفًا، بيد أن الساحة الفكرية العربية كانت تتطلع إلى عمل نقدي حول تجربة عقود ستة من الإصلاح والتحديث والبناء السياسي. وهكذا عالج العروي بنفس منهجي ونظري جديد معضلة الثقافة العربية وتجارب الفعل السياسي من خلال التحليل الأيديولوجي النقدي المستند إلى تاريخية المفاهيم وسياقات التداخل بين الأفكار والممارسات المجتمعية. ولقد كان تأثير الكتاب كبيرًا من وجهين: نقد التلفيقية الإصلاحية التي لم تكن مستوعبة لطبيعة الرهانات الفلسفية والمجتمعية للحداثة، ونقد التيارات الثورية اليسارية التي غاب عنها الأفق الليبرالي التنويري في مقارباتها النضالية الشعاراتية.
بعد مرور أكثر من نصف قرن على الكتاب لا يزال مقروءًا على نطاق واسع، وهو دون شك من أكثر الكتب تأثيرًا في حركية الفكر العربي الراهن .
الكتاب الحدث الثالث هو لمفكر مغربي آخر هو محمد عابد الجابري، وهو كتاب “نقد العقل العربي” الذي صدر الجزء الأول منه “تكوين العقل العربي” سنة 1984 والجزء الثاني “بنية العقل العربي” سنة 1986. كانت فكرة نقد العقل جديدة في الفكر العربي المعاصر الذي عرف بعد هزيمة 1967 سيلًا متصلًا من الكتب النقدية ركزت على الأنساق الأيديولوجية والظواهر الثقافية والمجتمعية. ولقد انفرد الجابري أوانها بتفسير أزمات المجتمع العربي بعوامل جوهرية تتعلق بتركيبة العقل ونظامه المعرفي. الجديد في هذه الأطروحة هو الجمع بين المنهج البنيوي في رصد نظام النصوص والخطابات، والمنهج التكويني التاريخي والتحليل الأيديولوجي، مع توظيف المفاهيم الإبستمولوجية في الكشف عن أدوات الفكر العربي وتحولاته وتشكلاته الخطابية. ومن البديهي أن كتاب الجابري خلف رجة كبرى في الثقافة العربية وترك أثره المكين على الحياة الفكرية، ولم يسلم أي اتجاه فكري أو إيديولوجي من تأثير الجابري إلى اليوم، رغم أوجه النقد الكثيرة التي وجهت للكاتب والكتاب.
ليس الكتاب الحدث خاصًا بالأعمال الفكرية، بل يمتد إلى الأعمال الإبداعية من شعر ورواية. فلا أحد يجهل تأثير ديوان شوقيات أحمد شوقي الصادر سنة 1926 أو ديوان الشاعر التونسي ابو القاسم الشابي الذي صدر في بداية الثلاثينيات، أو ديوان نزار قباني “الرسم بالكلمات” الذي صدر سنة 1966.
نفس الملاحظة تنطبق على الرواية، منذ رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل الصادرة سنة 1913 إلى أعمال نحيب محفوظ البارزة وبصفة خاصة رواية “خان الخليلي” التي صدرت 1945، أو رائعة الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” الصادرة سنة 1966.
كل هذه الأعمال الفكرية والإبداعية شكلت عند صدورها أحداثًا كبرى في الساحة الثقافية، أثرت في تركيبتها ووجهت مسارها ومصيرها، فلم تكن مجرد كتابات عابرة أو ظرفية.
في السنوات الأخيرة، كثيرًا ما تتم الشكوى من تراجع القوة الإبداعية للشعراء والروائيين العرب، كما يتهم الكتاب والمفكرون بضعف الإنتاج وقلة الجدية وندرة الإبداع .
ولقد صرح لي أحد القائمين على إحدى أهم الجوائز الثقافية العربية أن لجان التحكيم التي تقوّم الأعمال المرشحة للجائزة تواجه مصاعب الاختيار والانتقاء نتيجة لضعف الأعمال المقدمة لها، فليس فيها ما يبهر أو يستقطب الاهتمام الخاص .
نفس الملاحظة يقدمها الناشرون الذين يشتكون من كساد الكتب وضعف المعارض الكثيرة المنظمة في البلدان العربية. ومن أسباب هذه الظاهرة غياب الكتاب الحدث الذي يترك أثره بقوة في الساحة الثقافية ويفرض اهتمام القطاع العريض من القراء والمتابعين .
لا يعني الأمر غياب الكتابات الجدية إبداعًا وتفكيرًا وبحثًا، فالساحة الثقافية العربية تشهد راهنًا حيوية حقيقية تفسر باتساع المنظومة التعليمية والبحثية في عموم الأقطار العربية، لكن المقصود هنا هو الكتاب الحدث الذي هو نمط خاص ونادر من الكتابات المؤثرة والحاسمة في الفكر والثقافة .