نورمان فينكلشتاين، مؤرخ أمريكي مشهور من أصول يهودية بولندية تعرضت أسرته لمآسٍ بالإبادة النازية، عرف بدفاعه عن حقوق الشعب الفلسطيني، بما أدى إلى طرده من كل الجامعات الأمريكية، ومضايقته فكريًا وعلميًا في بلاده وفي عموم الدول الغربية.
أصدر فينكلشتاين كتابًا متميزًا بعنوان “صناعة الهولوكوست: تأملات حول استغلال المعاناة اليهودية” (The Holocaust Industry: Reflections on the Exploitation of Jewish Suffering)، بيّن فيه بوضوح أن المحرقة هي في جوهرها نمط من الصياغة الأيديولوجية. وإن استندت إلى حقائق لا شك فيها، إلا أنها تؤدي دور الحماية الأخلاقية لدولة عنصرية استعمارية تستخدم ظلمًا مأساة الشعوب اليهودية التي تمت في الحقبة النازية.
يركز الكتاب على نمط حضور واستغلال الهولوكوست في الحياة الأمريكية، موضحًا أنه وإلى حد قريب، لم يكن لهذه المأساة مكانة تذكر في الساحة الأمريكية، حتى لدى الأوساط اليهودية نفسها التي كانت حريصة على الاندماج النشط في المجتمع دون تأجيج أعباء الذاكرة الحية.
لقد تغيرت الصورة بعد حرب حزيران/يونيو 1967، فأصبح الهولوكوست منذ ذلك التاريخ سمة ملازمة للحياة اليهودية الأمريكية في كامل تفصيلاتها.
لقد كانت النخب اليهودية الأمريكية في السابق غير متحمسة لإسرائيل وقلقة على مستقبلها، وترى أن قادتها الذين هم في أغلبهم من أوروبا الشرقية قد ينضمون إلى المعسكر الاشتراكي الموالي للاتحاد السوفياتي، فكانت هذه النخب منسجمة مع موقف الإدارة الأمريكية التي لم تكن في البداية داعمة للدولة العبرية وان اعترفت بها فور إعلانها من هيئة الأمم المتحدة.بعد حرب 1967، تغيرت الصورة كليًا، فأصبحت إسرائيل محورًا للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وغدت المؤسسات اليهودية الأمريكية ذراع إسرائيل القوي من حيث هي خط الدفاع الأول عن “الحضارة الغربية” في مواجهة “القطيع العربي المتوحش”.
وفي حين كان الخوف قويًا لدى اليهود الأمريكيين من الاتهام بعدم الولاء للدولة، أصبح دعم إسرائيل تجسيدًا قويًا للوطنية الأمريكية. ومن هنا ندرك أن الروابط اليهودية الأمريكية الكبرى ركزت كامل أنشطتها على هدف توطيد الحلف الأمريكي-الإسرائيلي انسياقًا لتوجه سياسي أمريكي داخلي ثابت ومستقر.
من هذا المنظور، تندرج صناعة الهولوكوست لتأمين التعاطف الواسع مع إسرائيل التي هي ضمانة عدم حدوث إبادة جديدة للشعوب اليهودية “المحاصرة” من العدو العربي الذي يهددها من كل جهة حسب الدعاية السائدة.
المثير في الأمر أن صناعة الهولوكوست لم تظهر إلا بعد أن أصبحت إسرائيل قوة عسكرية ضاربة قادرة على الانتصار الساحق على خصومها العرب، وبعد أن تحولت إلى قوة احتلال إمبريالية قصوى.
لقد كشفت حرب 1973 عن نقاط الضعف الخطيرة في إسرائيل، لكن النخب اليهودية الأمريكية، بدلاً من أن تستنتج من هذا الواقع ضرورة السلام مع العرب الضحايا، ذهبت إلى أن الخيار الأمثل هو تأجيج ذاكرة الهولوكوست لتعزيز التعاطف مع دولة الاحتلال. يبين المؤلف أن الخلفية الحقيقية لهذه الصناعة هي توثيق الحلف الأمريكي-الإسرائيلي ومنحه الرمزية “الأخلاقية” المموهة.
في هذه الصناعة يحوّل أي نقد لإسرائيل أو للأيديولوجيا الصهيونية إلى ضرب من العداء للسامية، بحيث تكمم الأفواه وتحاصر الأصوات الحرة.
يرى المؤلف في هذا السياق أن مقاربة الهولوكوست السائدة تتأسس على منطلقين هما اعتبار وقائع المحرقة حدثًا استثنائيًا مطلقًا في التاريخ الإنساني، والنظر إليها بصفتها مظهر كراهية لا عقلانية أزلية لليهود من حيث هم أمة وقوم.
إن هذه الصورة لم تسبق حرب 1967، فلم يكن يُنظر إلى الهولوكوست النازي بصفته خاصًا باليهود ولم يكن يعتبر حدثًا تاريخيًا فريدًا.
الغرض من هذه الرؤية هو تحويل الهولوكوست إلى ظاهرة غير قابلة للتفسير ومن هنا تفردها، في حين تكتسي تفردها من عدم القابلية للتفسير. في هذا الأفق المسدود، يغدو الهولوكوست شرًا مطلقًا لا يشبه في شيء أي مأساة مرت بها الشعوب الإنسانية الأخرى، ومن هنا خصوصية الشعب اليهودي التي تمنحه حصانة أخلاقية أبدية وتبرر كل تجاوزات الدولة التي تمثله.وهكذا أصبحت صناعة الهولوكوست مصدرًا أساسيًا لجمع المال والموارد تعويضًا لضحايا المحرقة، وغدت لها متاحفها المنتشرة، ودراستها مفروضة أو مشجعة في 17 ولاية أمريكية، وفي أغلب الجامعات كراسٍ مخصصة لها، إلى حد أن ذكرى المحرقة من السمات القوية والمنتشرة حاليًا في الحياة العامة الأمريكية.
في الخطاب السياسي الأمريكي، غدا الهولوكوست المرجعية في تحديد الجرائم والانتهاكات من مجازر الخمر في كامبوديا، إلى الغزو السوفياتي لأفغانستان والتطهير العرقي في كوسوفو. وفي البلدان الحليفة للولايات المتحدة وأولها إسرائيل، لا تشكل عمليات الإبادة والتقتيل نمطًا من الهولوكوست، بل لا تستدعي حتى المتابعة الإخبارية السريعة.
الخلاصة التي يصل إليها المؤلف هي أن صناعة الهولوكوست ظاهرة أمريكية أساسًا تأقلمت معها النخب اليهودية في الولايات المتحدة من أجل الدفاع عن إسرائيل وحمايتها من كل نقد. ومن هنا يرى فينكلشتاين أن على اليهود الأمريكيين أن يتخلصوا من مسؤولية الانحياز لإسرائيل التي قد لا تخدم مستقبلًا المصالح العليا الأمريكية، فيدركوا أنهم كانوا مثل الأجيال الأولى من الصهاينة ضحايا استغلال خطير هو في حقيقته من أسوأ أشكال العداء للسامية.
بعد أحداث غزة الأخيرة، ظهر نورمان فينكلشتاين عدة مرات إلى جانب طلاب الجامعات الأمريكية الذين أعلنوا التضامن مع الشعب الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية، وقد صرح بوضوح أن هذه الحرب هي الدليل الواضح على أن “الحماية الأخلاقية” لإسرائيل أدت إلى إضعاف المرجعية الأخلاقية للسياسة الأمريكية، وكشفت عن انتقال رمزية الإبادة من المحرقة اليهودية إلى تدمير الوجود الفلسطيني بالكامل.
الخطر الأكبر الذي يواجه إسرائيل اليوم حسب فينكلشتاين هو أن الدولة التي تدعي الأمانة على ذكرى جرائم الإبادة الجماعية التي مورست ضد الشعب اليهودي أصبحت عاجزة عن احتكار استثنائية المحرقة بصفتها حدثًا أقصى وشرًا مطلقًا. وما يحدث اليوم هو هولوكوست فلسطيني كامل، في طور التحول إلى شرخ أخلاقي عميق في الوعي الإنساني.