عادة ما تختصر الممارسة الديمقراطية في المسطرة الانتخابية التي تعتبر مقياس صحة المجتمعات الديمقراطية، مهما كانت التحفظات النظرية والعملية على الآلية التنافسية ذاتها.
بيد أن فلاسفة السياسة المعاصرين كثيرًا ما اعترضوا على هذا الاختزال الانتخابي من منظور تصور السياسة في علاقتها بالمجتمع ومنظومة الحريات والحقوق. ومن بين هؤلاء الفيلسوف الفرنسي آلان باديو الذي نشر عدة أعمال هامة في السنوات الأخيرة حول أزمة الديمقراطية الانتخابية.
في هذا السياق، يميز باديو بين ثلاث مستويات من السياسة هي: الكتلة الواسعة من الجمهور التي يطلق عليها عادة لفظ “الشعب”، والتنظيمات الجماعية من روابط وأحزاب ونقابات، والمؤسسات العمومية التي يقوم عليها الحكم والسلطة، بما فيها القوى الاقتصادية والإعلامية المؤثرة في مركز القرار.
ومن ثم، فإن كل فعل سياسي لا بد أن يقوم على هذه المكونات الثلاثة. إلا أن باديو يميز بين أربع طرق مختلفة في ضبط ارتباط هذه المكونات المذكورة.
من هذه الطرق المسلكان المحافظ والإصلاحي وهما نقطة ارتكاز النظام البرلماني في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة في صراعها الداخلي بين قطبي اليمين واليسار، وهما يتفقان في اعتماد المرجعية الدستورية أداة لضبط التصادم القائم بينهما.
أما الاتجاهان الثانيان، فهما الراديكالية الثورية اليمينية (الفاشية) والراديكالية الثورية اليسارية (الشيوعية)، ويتفق الاتجاهان في ضرورة القطيعة مع النظام السياسي القائم وإعادة بناء الدولة والمجتمع كليًا.
يرى باديو أن النظام البرلماني يهدف أساسًا عن طريق الآلية البرلمانية، والوسائط التمثيلية والقوى المالية الخفية إلى ضمان استمرارية هيمنة المحافظين والاصلاحيين على الحقل السياسي، ومنع أي تحول راديكالي حقيقي في بنية الدولة والمجتمع.
حسب باديو، لا يمكن لهذه المنظومة أن تستمر دون ضمان القاعدة الرأسمالية الليبرالية، في تصورها للحرية، والعدالة والحقوق الفردية والقانونية. وما تعيشه راهنًا المجتمعات الغربية مع التطور الحالي للرأسمالية الليبرالية هو أن هذه الأرضية الاقتصادية لم تعد قادرة على توفير الضمانات الاجتماعية الكفيلة بتثبيت هذا الأسلوب السياسي، ومن ثم الامتعاض الواسع إزاء الديمقراطية الانتخابية والنظم المؤسسية المرتبطة بها لدى قطاع واسع من الجمهور المخول للتصويت والاقتراع.
لقد نتج عن هذا الامتعاض تنامي النزعات الراديكالية الشعبوية المتطرفة، إلى حد عودة شبح النزعات الفاشية العنصرية والعنيفة في كثير من الساحات الغربية.
وإذا كان باديو يرى أن الحل هوالرجوع إلى نوع من الخطاب الشيوعي الثوري الذي لا يرى في الانتخاب سوى أداة لتمويه إرادة الشعب وتقويض الفعل السياسي الحقيقي، فإننا نعتقد أن المطلوب هو إعادة صياغة الديمقراطية الليبرالية لكي تتناغم وتنسجم مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي الراهن.
المطلوب هنا هو التفكير من منظور جديد في مقتضيات الشرعية السياسية التي تستند إليها النظرية الديمقراطية.
فمن المعروف أن النظرية التقليدية للشرعية تأسست على محددات ثلاثة هي: المقاربة القانونية العقلانية للفعل السياسي (الشرعية العقلانية البيروقراطية بعبارات عالم الاجتماع ماكس فيبر)، والعدالة التوزيعية المؤسسة على المساواة في الحريات والحقوق (أطروحة جون رولز)، والنظام المؤسسي للوسائط الحزبية والمدنية الحاضنة لحرية الفرد واندماجه الاجتماعي.
بخصوص أطر الشرعية الجديدة، لقد بيّن بيار روزنفالون أن المحددات التقليدية التي تبلورت في العصر الصناعي الأول لم تعد كافية ولا فاعلة، ومن ثم ضرورة توطيد مستويات وضوابط الشرعية بروافد جديدة ، ذكر روزنفالون من بينها: ما يدخل في مقتضيات عدم التحيز، وما يتعلق بالتداول الفكري النظري، وما يضمن القرب الميداني المؤثر. في كل هذه الأمور، الأساس هو تجاوز أطروحة الشفافية الديمقراطية التلقائية التي لم يعد بالإمكان الدفاع عنها في الوضع الراهن.
بخصوص نظرية العدالة، نلاحظ أن جون رولز حاول سد ثغرات النموذج التعاقدي الذي قامت عليه تاريخيًا الأفكار الليبرالية من خلال تفكير معمق جديد في الجوانب المعيارية للعدالة يستوعب متطلبات التضامن والإنصاف التي أهملها الفكر الليبرالي التقليدي. بيد أن أطروحة رولز لم تنجح في تحقيق مطالب القوى الاجتماعية الجديدة في الجوانب المحورية التي لا تدخل في معادلة الحقوق القانونية والمادية، مثل مطالب الاعتراف والهوية الثقافية والحضارية، وغيرها. وهي الجوانب التي تحتل حاليًا واجهة العمل السياسي في المجتمعات الليبرالية المتقدمة. لقد أصبح من الجلي أن الممارسة الديمقراطية لا بد ان تدمج الخيرات غير المادية في صلب العمل السياسي، بما يعني التخلي عن الخلفية التقليدية للفكرة الديمقراطية المتماهية مع منظومة الحقوق الرأسمالية.
أما الجانب المتعلق بالوسائط المؤسسية، فقد غدا من الواضح أن المعادلة الحزبية المدنية التي ارتكز عليها النظام الديمقراطي الكلاسيكي قد تغيرت نوعيًا. ومن البديهي أن الأحزاب السياسية، والمنظمات النقابية والروابط الأهلية انهارت إلى حد بعيد في المجتمعات الصناعية المتقدمة، لأسباب لها علاقة مباشرة بتطور مفهوم العمل وعلاقاته الطبقية وتبدل الخارطة الأيديولوجية الكونية. ومن ثم أصبح من اللازم التعامل مع حقائق موضوعية جديدة مثل: تنامي العمل غير المادي القائم على الذكاء الاصطناعي، وثورة المعلومات الراهنة، وتأثيرات حركية العولمة على معايير السيادة، والحكامة والسلطة.
ليس ثمة بديل عن الفكرة الديمقراطية من حيث هي أفق الحرية السياسية، والمجتمع المفتوح، ودولة القانون والفصل بين السلطات، لكن الآليات العملية والنظم المؤسسية المجسدة لهذه المثل لا بد من مراجعتها جذريًا.
لا نتفق مع باديو في أن حل الأزمة الديمقراطية الراهنة هو الثورة الراديكالية على النظام الانتخابي والوسائط الاجتماعية المنظمة، ولو كان من الجلي أن الديمقراطية الانتخابية تعيش أزمة خانقة، وصلت في بعض الساحات إلى حد انحسار المثال الديمقراطي نفسه بحيث لم يعد محركًا لحلم التغيير والتحرر.
كان ألكسيس دي تكوفيل قد نبهنا قبل قرنين أن الديمقراطية بقدر ما يمكن أن تكون قوة دافعة للتحرر السياسي يمكن أيضًا أن تكون مجرد نظام للهيمنة الشرعية في وضعية “الديكتاتوريات الانتخابية”. إن هذه الملاحظة دقيقة وصائبة، لكن التجربة تبيّن أن تصحيح اختلالات الديمقراطية لا يمكن أن يتم إلا من داخل الممارسة الديمقراطية ذاتها.