أقر الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب أن كاتبه المفضل هو الروائية والفيلسوفة ذات الأصول الروسية “آين راند” المتوفاة سنة 1982، وأن روايتها “المنبع الحي” (The Fountainhead) هي كتابه المفضل. الرواية الصادرة سنة 1943 تحيل إلى مقولة شهيرة لراند: “إن الإنسان هو المنبع الحي للتقدم الإنساني”. ولقد اعتبر ترامب أن بطل الرواية المذكورة يشبهه في كثير من الجوانب، ويتعلق الأمر بمهندس معماري في أمريكا العشرينيات يطلق عليه “هوارد روارك”، يعيش في مدينة نيويورك، ويتسم بالنرجسية العالية واستخدام القوة المفرطة ويرفض أي توافق مع غيره لا يخدم مصلحته الشخصية، ولذا يثير افتتان وخوف معاصريه الذين ينساقون مكرهين إلى طاعته في كل قراراته المثيرة.
كثيرًا ما يتشبه ترامب بهذا المهندس النرجسي، بل إنه اعتمد تسريحة شعره البرتقالية، وكرر بعض مقولاته التي أوردتها راند في روايتها التي ما تزال من أكثر الكتب انتشارًا في الولايات المتحدة الأمريكية.
من الصعب تصنيف “آين راند” التي أبدعت خطًا فلسفيًا خاصًا بها أطلقت عليه “الموضوعية” (Objectivism) واعتبرته مؤسسًا على معيار “الأنانية العقلانية”، ومن مسلماته الأساسية: الوجود الواقعي للأشياء وفق نهج ما يسمى في الفلسفة الأمريكية بالميتافيزيقا الواقعية التي ترفض اختزال الظواهر في المجردات التصورية، والنزعة التجريبية في الإدراك والمعرفة والبناء المنطقي، وفهم الأخلاق من منظور تحقيق السعادة والرفاهية الشخصية دون قيود أو ضغوط خارجية، والحد من تدخل السلطة العمومية والرهان على قدرة النظام الرأسمالي على ضبط توازناته الذاتية دون الحاجة إلى دولة قوية متحكمة.
ومن هنا ندرك علاقة راند بالتيار الليبرتاري الذي ظهر في أمريكا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقد عرف بدعوته إلى الإعلاء من شأن الحرية الفردية والقانون الطبيعي في مقابل الدولة التي اعتبرت شرًا لا بد من التحرر منه من أجل السماح بحيوية الإبداع والترابط الحر. ولعل أهم نص فلسفي يعبر عن هذه الأطروحة هو كتاب “روبير نوزيك” الصادر سنة 1974 بعنوان “الفوضى والدولة واليوتوبيا”، وفيه يتناول بالنقد نظريات العدالة التوزيعية من منظور رأسمالي راديكالي، مطالبًا بحصر تدخل الدولة في تأمين السلم الأهلي، وحماية التوافقات والعقود الاجتماعية والمدنية الحرة. من هذه المنطلقات، يتم وضع فلسفة أخلاقية تعترف للإنسان بحقوق التملك والفاعلية الاقتصادية والإنتاجية حسب ثلاثة مبادئ كبرى هي: حق التمتع الكامل بالنفس دون إكراه أو تقييد، وحق الحيازة الأصلية الذي يسمح للفرد بأن يستولي على الثروة التي يستحوذ عليها قبل غيره، ومبدأ التنقل الحر للثروة.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن التيار الليبرتاري يختلف عن الاتجاه الليبرالي الكلاسيكي الذي أصبح أقرب لليسار الاجتماعي في الولايات المتحدة منذ أن اعتمد مقولات العدالة التوزيعية والمساواة التمييزية. فإن كان الاتجاهان يتفقان في جوهر المنطلقات الأخلاقية مثل الفردية المنهجية والحرية الذاتية، إلا أنهما يختلفان في تصور طبيعة تدخل الدولة في الشأن العام وما يترتب على هذا التدخل من سياسات هوياتية اجتماعية.
إلا أن التيار الليبرتاري قد انقسم عمليًا إلى ثلاثة اتجاهات كبرى: اتجاه فوضوي يدعو صراحة إلى تفكيك الدولة والقضاء عليها ويعتبر أن المجتمع المدني قادر على ضبط توازناته الذاتية، واتجاه محافظ يدعو إلى العودة إلى الأخلاقيات الدينية التقليدية ويحارب كل الإصلاحات الحداثية وخصوصًا ما يتعلق منها بالأسرة وحقوق المجموعات الجندرية، واتجاه تقدمي يتبنى منطق العولمة التقنية المفتوحة التي لا حدود ولا قيود لها.
ومن البديهي أن هذه الاتجاهات الثلاثة حاضرة اليوم بقوة في الإدارة الأمريكية الجديدة.
فإذا كان الرئيس ترامب يتبنى صورة غير نمطية من الأيديولوجيا الليبرتارية بالرجوع إلى “آين راند”، فإن “إيلون ماسك” يمثل التوجه التقدمي مع ميول فوضوية تنظر سلبًا إلى الدولة المركزية والسلطة العمومية والإدارة البيروقراطية، بينما يمثل نائب الرئيس “جي دي فانس” الاتجاه المحافظ الأقرب للأصولية الدينية المناوئة للأفكار والقيم التقدمية التطورية.
هل يشكل هذا الحزام المتنوع خليطًا متنافرًا من المتوقع أن يتفكك؟
ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال في الوقت الحاضر. فمن الجلي أن الاتجاه المحافظ في نزعته القومية الدينية الانكفائية يتعارض مع الخط التقدمي التي يتبناه الليبرتاريون التقنيون من رؤوس السيلكون فالي الذين التحقوا بالرئيس ترامب مؤخرًا، كما أن الحاكم الأمريكي الجديد لا يبدو في خطابه السياسي مهووسًا بالإحالات الدينية رغم تقربه من المؤسسة الإنجيلية التقليدية. إلا أنه لا بد من التنبيه إلى أن المجتمع الأمريكي عرف في السنوات الأخيرة حركية جدلية واسعة حول طبيعة “الحلم الأمريكي” في واقعه الراهن، بالخلاف الجذري حول تصور وتطبيق القيم الليبرالية التي تأسس عليها النموذج الأمريكي قبل ثلاثة قرون.
فإذا كان الحزب الديمقراطي انتقل تدريجيًا إلى الخط الهوياتي التقدمي بتأثير التيار الليبرالي الاشتراكي الذي تحمله النخب الأكاديمية، والمجموعات الملونة والحركة النسوية، فإن الحزب الجمهوري تحرر من سيطرة الليبرالية التقليدية وتأثير المحافظين الجدد الذين هيمنوا على السلطة في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن وانتقل إلى التوجه الليبرتاري الجديد المتحالف مع الحركة المحافظة القومية.
بعض التحليلات ذهبت إلى أن أمريكا عادت مع ترامب إلى أجواء القرن التاسع عشر ونظرية توازنات القوة بديلًا عن قوة القانون ومقاربة توزع مجالات النفوذ الخارجي بديلًا عن نظرية الشرعية الدولية المعاصرة، إلا أن الحالة الفكرية الراهنة يجب النظر إليها في سياق ديناميكية التجربة السياسية الأمريكية الداخلية، التي ليست لحظة ترامب سوى مظهر من مظاهرها الجديدة.
لقد عرف التيار الليبرتاري بعض النفوذ والتأثير في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان، لكن معادلة الحرب الباردة بنسيجها الأيديولوجي كانت قائمة أوانها، وما تشهده الولايات المتحدة راهنًا هو السيطرة الكاملة لهذا الاتجاه في سياق مغاير، يتعين التنبه الدقيق لمحدداته ومآلاته المستقبلية.