في كتابه الهام “تاريخ الحداثة”، يقف المفكر الفرنسي “جاك أتالي” عند السردية الطويلة للحداثة، رافضًا إرجاعها إلى الفترات الزمنية الأخيرة التي شهدت الثورات الصناعية والتقنية والسياسية التي غيرت جذريًا وجه العالم.
في هذا الكتاب، يرجع “أتالي” الجذور العميقة للحداثة إلى ثلاثة روافد تاريخية كبرى، هي: حداثة الوجود، وحداثة الإيمان، وحداثة العقل.
حداثة الوجود برزت عندما انفصل الإنسان عن المجموعة وأصبح مهمًا في ذاته، واكتشف أفق الزمنية الممتدة من حيث هو أفق للأمل والممارسة الفاعلة. لقد تزامنت هذه الثورة لدى العالم اليوناني والعالم العبراني، كل منهما على طريقته الخاصة وبحسب خصوصيته المميزة. أصبح المستقبل والجديد في العالمين إطارًا إيجابيًا للنظر والاعتقاد والفعل، واستطاعت الحضارة الرومانية استيعاب هذا التحول وأضافت إليه المؤسسة العسكرية القوية والإنجازات العمرانية الباهرة.
أما حداثة الإيمان، فقد ارتبطت بالنسبة لأتالي بالمسيحية من خلال نقل المستقبل إلى الغيب الموعود، وتفضيل نعيم الآخرة على مباهج الدنيا. وهكذا سادت هذه الحداثة في أوروبا طيلة أكثر من ألف وخمسمئة سنة.
في القرن الثاني عشر، بدأت في إيطاليا وشمال أوروبا ثورة زراعية وصناعية كبرى كرست ثقافة الإنتاج والعمل المأجور وخلقت الفن الإبداعي الجديد. وفي القرن الخامس عشر، تم اكتشاف أمريكا، وظهرت الطباعة والمحاسبة التجارية وأخذ التاجر والعامل الصناعي محل الفلاح المزارع. وهكذا؛ برزت حداثة العقل في مقابل الوجود والإيمان، بالقطيعة المتنامية مع العالمين اليوناني والمسيحي.
الحداثيون الجدد لا يهتمون إلا بالاكتشافات العلمية والتقنية، ولم يعودوا يرجعون للأفكار الفلسفية اليونانية أو الاعتقادات اللاهوتية المسيحية. لقد غدت القيم الجديدة هي التقدم والسوق والحرية، وأضحى الأفق المستقبلي هو نشر الحرية على أوسع نطاق وفي كل مجالات الحياة.
هذه الحداثة الأخيرة بدأت من هولندا، ثم بريطانيا التي شهدت نشأة الثورة الصناعية، وبعدها أمريكا في حربها للاستقلال وفرنسا في ثورتها السياسية.
في القرن التاسع عشر بفرنسا، ظهرت لأول مرة عبارة حداثة باللغات الأوروبية (Modernité) لدى الأديب المشهور “بالزاك”، وهي تعني في دلالتها الواسعة الحضارة التي تجمع بين الحرية الفردية، وحقوق الإنسان، والعقلانية، والوضعية والإيمان بالتقدم التقني والصناعي.
الحداثة بهذا المعنى هي نمط من الاجتياح، اعتبر “أوغست كونت” أن مفتاحه هو العلم، ورأى “سان سيمون” أنه الصناعة، وقال “ماركس” إنه صراع الطبقات، وذهب “توكوفيل” إلى أنه الديمقراطية والمساواة الاجتماعية، واعتبر “ماكس فيبر” أنه العقلنة.
إلا أن السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر عرفت ديناميكية نقدية لهذه الحداثة الجديدة، برزت بداية في التيارات الاشتراكية الأولى التي طرحت تصورًا جديدًا للحداثة العقلية يقوم على هدف التخلص من الاستلاب والتفاوت الطبقي.
ثم بلور نيتشه نمطًا آخر من الاعتراض على الحداثة باسم ما عرف بالعدمية قبل أن يطلق عليه “ما بعد الحداثة”، وأساسه الدعوة للقطيعة مع الوجود والإيمان والعقل.
وبداية من خمسينيات القرن الماضي، عاد بقوة المشروع العقلاني الذي كانت له مكاسب ملموسة غيرت إيجابًا واقع المجتمعات البشرية إلى الأفضل، من حيث رفاهيتها وحقوقها ومصالحها الحيوية.
لقد طغت هذه الحداثة العقلانية على العالم كله، وغدا طموح كل أفراد العالم هو اعتماد نموذج الحياة الغربي من تقدم تقني، وإبداع علمي، وحرية فردية، وحقوق إنسان، وديمقراطية ورفاهية اقتصادية.
السؤال المطروح حاليًا حسب “أتالي” هو: ما هو مستقبل الحداثة؟ وما هو التصور الإنساني الذي سيسود للمستقبل؟ هل سيكون على غرار الشغف الراهن بالمتعة والرفاهية والتقدم التقني، أو سيحمل عودة معينة لقيم الوجود والإيمان؟
الإشكال المذكور هو موضوع جدل كثيف حاليًا بين من يرون مشروع الحداثة أفقًا للمستقبل، ويراهنون على الثورة التقنية الجديدة في تحقيق الإنسان أهدافه القصوى، ومن يعتبرون أن الحداثة مرحلة انتهت وغدت خطيرة على الإنسانية اليوم نتيجة لما أدت إليه من كوارث أخلاقية ومالية وتقنية أضعفت الانشداد إلى العقل الأداتي الوضعي. وهناك من يدعون إلى الرجوع إلى القيم المؤسسة للثقافات السابقة، أي الرجوع إلى حداثة الوجود والإيمان، بما هو متجسد في نزعات أصولية دينية وتيارات إيكولوجية وإثنية صاعدة في العديد من الساحات الغربية. وفي الأخير، ثمة من يدعون لحداثة بديلة تقوم على أخلاقيات متجددة مؤسسة على الإيثار والتضامن والمسؤولية، بما ينعكس في نمط إدارة الاقتصاد والسياسة وأنماط السلوك الفردي والجماعي. من الواضح أن “أتالي” يتبنى الخيار الأخير، بيد أنه يرى أن هذه التيارات الأربعة ستتصادم بحدة في المستقبل المنظور.
ما نريد أن نعلق به على أطروحة “أتالي” الهامة، هو أنه جانب الصواب في ربطه حداثة الوجود وحداثة العقل بالعالم الغربي، في حين أن الأمر في الحقيقة يتعلق باكتشاف فكرة الكونية الإنسانية في تعبيريها الفلسفي والديني في الشرق في ضفتيه اليونانية (التركية على الأصح كما بيّن المؤرخ الشهير “هيرودوت” وجزم “هيغل”)، والصحراوية (مهبط الديانات السماوية الثلاث).
الكونية اليونانية أسست لفكرة الكليات التي كرست التصور المنطقي البرهاني للمعرفة، والكونية التوحيدية كرست فكرة الوعي الذاتي القادر على ضبط الاعتقادات والقيم المشتركة.
هل كانت حداثة العقل قطيعة مع حداثة الوجود والإيمان؟
لا مناص من الرجوع إلى المحاولات الجريئة التي تمت في العصور الإسلامية المتأخرة وانتقلت إلى الحقبة اللاتينية الوسيطة من أجل تجاوز الميتافيزيقا اليونانية والعلوم الصورية الإغريقية من خلال تصور ذاتي للعقل ومقاربة رياضية للطبيعة، بما فسح المجال أمام الحداثة العلمية والإنسانية الراهنة. ذلك ما يسميه مؤرخ أفكار العصور الوسيطة “آلان دي لابيرا” مسار الحداثة وفق السردية الزمنية الطويلة، والنتيجة التي يفضي إليها هذا التوجه المنهجي هي النظر إلى اختلالات وتصدعات الحداثة الحالية باعتبارها قابلة للإصلاح والتجاوز، شرط الرجوع إلى منابع الدلالة والقيم التي تأسست عليها فكرة الكونية الإنسانية التي هي المضمون العميق لمفهوم الحداثة.