في خطاب تنصيبه رئيسًا جديدًا للولايات المتحدة، استخدم دونالد ترامب مرات عديدة عبارة “ثورة الحس المشترك” (Common Sense Revolution)، التي تعني بالنسبة له الرجوع إلى “الحقائق البديهية” التي يتبناها الشعب الأمريكي في مقابل خطاب “النخب المؤدلجة” التي تتركز في التيار اليساري والوسط الثقافي الجامعي.
لعبارة الحس المشترك المستخدمة اليوم على نطاق واسع لدى الاتجاهات الشعبوية في الغرب جذور فلسفية ترجع إلى أرسطو الذي بلور هذا المفهوم في كتابه “في النفس” في سياق نظريته حول الإدراك الحسي، ووظفه بمعنى الإحساس العام الذي يختلف عن العلم النظري البرهاني لكنه يستند إلى فاعلية حدسية مشتركة لها جانب من المقبولية والصواب.
لهذه العبارة علاقة مباشرة بمفهوم “الحس السليم” (Le Bon Sens) الذي استخدمه الفيلسوف الفرنسي ديكارت، واعتبر أنه “أعدل شيء قسمة بين الناس”، وهو يعني هنا العقل القادر على التمييز بين الصواب والخطأ والوصول إلى الحكم الصحيح على الأشياء.
وقد بين الفيلسوف الألماني كانط الفرق بين الحس المشترك والحس السليم، بالقول إن المفهوم الأول يحيل إلى النشاط الحسي في حين أن المفهوم الثاني يرتبط بالمفاهيم العقلانية. وإلى هذا المعنى أشار برغسون في تمييزه بين ما هو مجرد حس مشترك معرض للخطأ والزلل، وما هو مستند لبرهان عقلي رصين وموضوعي.
ليست هذه الاعتبارات الفلسفية هي ما يهمنا في هذا الحيز، فمن المؤكد أن الساسة الشعبويين في الغرب لا يدركون هذه الدلالات الدقيقة رغم استخدامهم الواسع لمقولة “الحس المشترك”.
الإشكال الحقيقي يدور حول دور العقل البرهاني في الشأن العام، بما يؤسس لطبيعة العمل السياسي ويحدد نمط الفاعل السياسي ذاته الذي يختلف عن المغامر المتهور والمثالي الحالم الذي لا يقيم شأنًا لمحددات ورهانات السلوك الجماعي في منطقه المفهومي العميق.
لقد كان هذا الإشكال حاضرًا منذ البداية في الفلسفة اليونانية، حيث اعتبر أفلاطون أن الفيلسوف هو وحده المؤهل لرسم المعايير المدنية لكونه ينفرد بالعلم البرهاني الدقيق بالأشياء بينما يعيش عامة الناس في الوهم والخطأ، في حين ذهب أرسطو إلى أن الأمور السياسية لا يمكن أن تؤسس على علم برهاني رصين لكونها تلتبس بالتحول الحدثي والإرادة البشرية المتغيرة.
مع عصور الحداثة، وخصوصًا في فلسفة كانط في القرن الثامن عشر برز مفهوم “الاستخدام العمومي للعقل”، بالتفريق بين الوظيفة التأملية الإقناعية للعقل من حيث هو تجربة ذاتية فردية تصل إلى الحقيقة الملزمة منطقًا ودليلًا، والوظيفة الاجتماعية التنويرية التي تقوم على بناء قيم سياسية ومدنية مشتركة على أساس عقلاني حر.
لهذا التمييز علاقة مباشرة بثنائية العام والخاص التي تشكلت مع الزمن الحداثي، من أجل الفصل بين المجال العمومي الذي هو حقل الحريات الموضوعية والقوانين المشتركة ومدار العمل السياسي الشرعي، والمجال الخاص الذي هو إطار القناعات الفردية والأخلاقيات الخاصة التي لا تدخل للدولة فيها.
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن هذا التصور الجديد للسياسة كرس محورية المرجعية العقلانية للشأن العمومي باعتباره لم يعد يتأسس على تصور قبلي للخير المشترك، والأمر هنا يعني عقلانية تداولية ميدانها النقاش العمومي الحر، والتعددية القيمية والمعيارية المفتوحة.
أداة عمل السياسي من هذا المنظور هي الإقناع البرهاني الذي هو جوهر الممارسة الديمقراطية، من منطلق احتمالي يدرك استحالة الوصول إلى يقينيات مطلقة عن طريق النقاش العمومي في مجتمعات لا تفتأ تمر بتجارب التداول على السلطة عبر المواسم الانتخابية المنتظمة.
ما الذي تغير مع التيارات الشعبوية التي تعتمد “ثورة الحس المشترك”؟
لقد تغيرت ثلاثة اعتبارات أساسية، نشير إليها باقتضاب:
- أولًا: العلاقة بمفهوم الحقيقة العمومية التي أصبحت مجرد خيار من بين خيارات أخرى لا يلزم السياسي في شيْ. ومن هنا بروز فكرة “ما بعد الحقيقة” (Post Truth) التي تعني التغير الجوهري لثنائية الصواب والخطأ التي هي مرتكز المنطق البرهاني البشري وما يقوم عليه من مسلّمة استقلال الواقع عن التصورات الذهنية الخصوصية. لقد تحدث بعض السياسيين الغربيين عن مفهوم “الحقيقة البديلة” أو “الحقيقة المصطنعة” للتعبير عن هذا التحول الذي يشكل خطرًا محدقًا بالممارسة الديمقراطية من حيث هي حقل للنقاش العمومي للوصول إلى توافقات عقلية موزونة وإن كانت نسبية ومؤقتة بالضرورة.
- ثانيًا: تبدل ثنائية العمومي والخاص التي تأسست عليها الحداثة السياسية، نتيجة الثورة الاتصالية المعلوماتية الراهنة التي أدت إلى اقتحام الذاتي الحميمي للدائرة العمومية وحولت النشاط الخاص إلى مادة للفعل السياسي. ولهذا التحول نتائج كارثية على العمل السياسي في الديمقراطيات الحديثة، من أبرز سماته الدور المتزايد لرجال المال والأعمال، والمدونين، و”صناع المحتوى” وصغار الممثلين في الشأن العمومي، وانهيار صحافة الرأي والفكر التي عوضتها مواقع التواصل الاجتماعي التي تنقل الانطباعات السريعة والأهواء العاطفية المتقلبة بدلًا من الأفكار و الآراء العقلانية فتؤثر على المزاج العام وتتحكم في صناعة الرأي الجماعي.
- ثالثًا: تعطل آليات التوازن المؤسسي التي ضمنت استقرار وديمومة المنظومة الديمقراطية في الغرب المعاصر، بما تعكسه تصورات جديدة، من قبيل الفصل بين الديمقراطية والليبرالية، أي بين مبدأ الإرادة السيادية العمومية ودولة القانون التي هي المضمون المعياري للفكرة الديمقراطية نفسها، ومفهوم “السلطة التنفيذية الواحدة” الذي يعني تمتع الحاكم المنتخب بكل أدوات القرار، ولو أدى الحال إلى تقويض نظام الفصل بين السلطات الثلاث الذي هو المكسب الأكبر للحداثة السياسية.
المفارقة الكبرى تكمن في أن الحركة الشعبوية الراهنة في الغرب الليبرالي تدعي أنها تعبر عن روح ديمقراطية متجددة وقوية تتماهى مع إرادة “الشعوب” العميقة، دون حاجة إلى وسائط مؤسسية تتحكم فيها النخب التي تنعتها بالفساد، بينما يؤكد الواقع الموضوعي أن المجتمعات المتعددة الحرة لا يمكن أن تمارس إرادتها الحرة إلا من خلال التنوع المؤسسي الذي يقتضي ما عبر عنه هابرماس بإلزامية ترجمة مضامين الأفكار والقيم إلى لغة العقل العمومي البرهاني.