في إحدى رسائله الأخيرة، يدعو البابا فرنسيس صراحة إلى الخروج من عقيدة “الحرب العادلة” التي بلورها القديسان أوغسطين وتوماس الأكويني وظلت هي المذهب الرسمي للكنيسة الكاثوليكية إلى عهد سلفه الكاردينال راتسنجر.
ومن المعروف أن هذه العقيدة كما بلورها آباء الكنيسة الأقدمون تدور حول ثلاثة مبادئ أخلاقية أساسية هي: حصر شرعية شنّ الحرب بالسلطة الحاكمة (الإمبراطور سابقًا والدولة الوطنية راهنًا)، وعدم اللجوء للحرب إلا في حال الضرورة وعندما تكون القضية التي يدافع عنها أخلاقية وعادلة، وترك المجال للسلم من خلال ترتيبات توقف العنف وتكفل العودة للوضع الطبيعي الذي هو التعايش السلمي بين الأمم والبلدان.
لا بد من التنبيه هنا إلى أن هذه الأحكام تتعلق بالنسبة للتقليد الكاثوليكي بالأمم المسيحية، أما بخصوص الأمم الأخرى فالوضع مختلف، ولذلك طرح اللاهوتي الأسباني فرنسيسكو دي فيتوريا في القرن السادس عشر مشكل الغزو الاستيطاني الأوروبي في أمريكا باعتباره يستهدف شعوبًا “همجية” مغايرة في الدين، لكنه وإن حافظ على أهم أفكار الحرب العادلة، إلا أنه طالب ببناء منظومة للسلم العالمي على أساس معايير “القانون الطبيعي”.
في القرن الثامن عشر، برزت محاولات جريئة لبلورة نموذج “السلم الأبدي” بالخروج نهائيًا من منطق الحرب، وعرفت في هذا السياق كتابات الأب “دي سان بيار”، وجان جاك روسو وإيمانويل كانط.
ولقد تمت هذه المحاولات في مرحلة شهدت تشكل الدولة الوطنية في أوروبا، بما تقوم عليه من فكرة المواطنة المدنية على أساس قانوني توافقي، يمنع العنف داخليًا ويقيده خارجيًا في الدفاع المشروع عن النفس في حال الاعتداء والعدوان.
بيد أن الدولة الوطنية التي تأسست على المرجعية القانونية المدنية هي نفسها التي ارتكزت على مبدأ السيادة وما يعنيه من احتكار العنف المشروع حسب عبارة ماكس فيبر الشهيرة.
لقد تساءل الفيلسوف الفرنسي الراحل بول ريكور: لماذا أصبحت الحرب مشكلة في الفكر السياسي الحديث المتولد عن نموذج الدولة الوطنية؟
يجيب ريكور قائلًا: لأن الحرب ليست بالضبط عملية القتل المقنّن، فعبرها يتداخل قتل العدو مع تضحية الفرد بنفسه من أجل استمرار دولته.
ومن هنا، يذهب ريكور إلى أن الحرب وضع عبثي أقصى، يتمثل في تبرير قتل إنسان آخر، هو مواطن دولة أخرى، بطريقة يعرّض فيها الفرد نفسه للخطر لكي تستمر دولته في الوجود. الأمر هنا لغز لا حل له، ولا يمكن حسمه من خلفية أخلاقية، باعتبار أن هذا التحدي يضع المرء أمام أخلاقيتين متعارضتين، هما أخلاقية الخير وأخلاقية الإكراه.
إن تبرير الدخول في الحرب يتلخص في الوفاء للوطن، أي استمراره في البقاء، بما يعني في نهاية المطاف التواطؤ مع الدولة في خطئها الذي هو إشعال الحرب، دون الحق في مساءلتها حول هذا الحق السيادي.
أما الخروج عن طاعة الدولة برفض الحرب، فهو بمنطق القانون الحديث جريمة تعرض لنفس النتيجة الذي هو القتل الجنائي، فضلًا عن تعارض هذا الخيار مع واجب التضحية من أجل استمرار وبقاء الوطن.
في بعض الأحيان، يكون العصيان مبررًا أخلاقيًا، مثل الخروج على الأنظمة القمعية الاستبدادية في حروبها الأهلية والخارجية، لكن الدولة تظل مهما كانت طبيعتها قائمة على العنف القاتل، بما يترجم أخلاقيًا في مصاعب التأقلم مع سياساتها الحربية، على حافة القتل والتضحية.
ربما تراجع الإشكال خلال النصف الثاني من القرن العشرين في الغرب، بعد نهاية الحروب العالمية وحروب التحرر الوطني، وساد الاعتقاد أن المنطق القانوني للسياسة عوّض نهائيًا ظواهر العنف والحرب. بل إن المدونة القانونية في الديمقراطيات الليبرالية غدت تميل إلى إلغاء كل مظاهر العنف من العقوبات الجزائية، في الوقت الذي يتم التبشير بوعد آدم سميث القديم المتمثل في تعويض الحرب بين الدول والأمم بروابط التجارة ومنافعها.
في نهاية القرن العشرين، ذهب العديد من الفلاسفة والمفكرين الغربيين إلى أن الحرب أصبحت خارج أطر التفكير في منظومة القيم المعاصرة، وانحصر استخدامها في معاني المواجهة الرمزية مثل الحرب على الأوبئة، والاختلالات المناخية والفقر، وغيرها.
وحتى عندما قامت حروب البلقان على الساحة الأوروبية في التسعينيات، نظر إليها على أنها حالات استثنائية شاذة مرتبطة بأوضاع انتقالية ظرفية، كما أن حروب التدخل الإنساني التي حدثت في كوسوفو والبوسنة قدمت بكونها عمليات بوليسية لا تختلف عن مهمات الشرطة الداخلية. إنه نفس المصطلح الذي استخدم لاحقًا في حروب الإرهاب التي شغلت العالم في العقدين الماضيين.
مع الحرب الأوكرانية تغيرت الصورة، وظهر أن شبح الحرب أطل من جديد على الساحة الأوروبية، التي كانت توهمت أنها قضت على هذا الخطر الذي يتهدد المجتمعات من الداخل بالتفكك ويهدد البناء الجيوسياسي للقارة المرفهة.
ومع أن روسيا تجنبت استخدام مقولة “الحرب”، واكتفت بمقولة “العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”، إلا أن قادة الدول الأوروبيين اكتشفوا بعد اندلاع المواجهة أنهم لم يعودوا جاهزين للحروب ولا مستعدين لدفع تكاليفها.
وبعد رجوع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلطة في بداية السنة الجارية وإعلانه نهاية معادلة الحماية العسكرية اللامشروطة لحلفائه الأوروبيين (في إطار منظومة حلف الأطلسي)، تجدد هاجس الحرب في القارة العجوز، حتى في البلدان التي كانت تعتقد أنها غدت منذ سنوات طويلة بمنأى عن أي غزو خارجي أو مواجهة عنيفة، كما هو شأن ألمانيا.
قبل شهور، كتب عالم الاجتماع إيمانويل تود كتابًا مثيرًا بعنوان “هزيمة الغرب”، ذهب فيه إلى أن تجربة الحرب الأوكرانية كشفت عن اختلالات عميقة في الدول الغربية، التي تعاني من الشيخوخة المتقدمة التي تنعكس في تقلص الكتلة الشبابية القادرة على القتال، كما تعاني من انهيار المنظومة الصناعية الكفيلة بتأمين حاجيات المواجهة تقنيًا وعسكريًا. وقد خلص تود إلى القول إن مشكل الأمن الحيوي الأوروبي سيفتح مجددًا بصفة حادة في السنوات القادمة.