الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الدولة والحاجة إلى السياسة
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

“فيليب بتيت” فيلسوف بريطاني مرموق ينتمي إلى المدرسة “الجمهورية” (Republicanism)، التي لا تعني الدفاع عن شكل معين من الحكم السياسي، بل تتبنى فكرة بناء النظام العمومي على أساس التعاضد المدني والمشاركة العملية في مسار السلطة، بغض النظر عن طبيعة نظام الدولة هل هو ملكي أو جمهوري.

ولقد أصدر بتيت مؤخرًا كتابًا هامًا بعنوان “الدولة” (The State)، يدافع فيه عن الحاجة إلى الدولة من حيث هي الإطار الضروري لضبط وتدبير الرابطة الاجتماعية المشتركة، أي إخراج مبدأ الحرية من طابعه الافتراضي المجرد إلى الواقع الفعلي الملموس من خلال مؤسسات عمومية قادرة على إدارة المعايير المتقاسمة اجتماعيًا بما هي مرجعيات العدالة والشرعية.

في هذا السياق، يختلف بتيت عن توجهين معروفين في الفكر السياسي الحديث: التوجه الليبرالي الذي يرى الدولة عائقًا أمام حرية الفرد ومن ثم يقلص شرعيتها إلى الحد الأدنى الذي هو أداء دور الحكم المحايد بين أفراد أحرار وفاعلين، والتوجه التعاقدي الذي يكرس التصور السيادي التوافقي للدولة بما يقوم عليه هذا التكريس من منح السلطة المؤسسة الأولوية على القوانين والتنظيمات المعيارية للمجتمع السياسي.

في مقابل هذين التصورين، يرى بتيت أن الدولة ليست مجرد شر لا بد منه أو حالة تاريخية معبرة عن إرادة مشتركة حرة، بل هي واقع معقد وليس بالضرورة محددًا من حيث الخلفيات التأسيسية، وإنما انبثقت عن تواضعات قانونية وقيمية سابقة على الوضع السياسي نفسه، ومن ثم أصبحت ضرورية وحتمية لاحقًا.

وعلى عكس أطروحة هوبز الشهيرة في الربط بين نشأة الدولة والحاجة إلى السلم الأهلي، يرى بتيت أن ما يربط الناس بالدولة ليس الخوف من الهلاك والفوضى، بل “التقدير العمومي” الذي هو ضرورة لضمان العدل المؤسسي بين الأفراد داخل مجتمع متضامن ومتماسك. على أن بتيت يؤكد أن الدولة لكي تكون قادرة على ضمان التقدير العمومي والعدالة الاجتماعية لا بد أن تحترم المعايير القانونية المؤسسية المستبطنة بصفة مشتركة لدى مواطنيها، بما يتحقق من خلال نظم لا مركزية وتعددية متوازنة.

أهمية أطروحة بتيت تتمثل في كونها تخرجنا من الجدل العقيم المنتشر في أيامنا في الفكر السياسي الغربي بين المدرسة الليبرالية الكلاسيكية التي تعطي الأولوية لمدونة الحقوق الطبيعية على اعتبارات سيادة الدولة بما يفضي في نهاية المطاف إلى تقرير إمكانية تجاوز الكيانات الوطنية في بناء دستوري ما بعد قومي على غرار ما طرحه عدد من المفكرين البارزين في مقدمتهم الفيلسوف الألماني “يورغن هابرماس”، والاتجاهات الشعبوية التي تدافع عن استمرارية وشرعية الدولة الوطنية ولو بثمن الخروج من المرجعية الليبرالية التي هي المضمون المعياري العميق للممارسة الديمقراطية (خيار الديمقراطيات غير الليبرالية بلغة رئيس الحكومة الهنغارية فيكتور أوربان).

ما يبينه بتيت هو أن الدولة الحديثة لا يمكن إلا أن تكون حالة قانونية مدنية لكونها تستوعب قيم الحرية والتضامن الاجتماعي، كما أنها تقوم ضرورة على التوازنات المؤسسية الدقيقة التي تكفل العدالة والاستحقاق في مجتمع راشد ومستقل، لكنها في الآن نفسه أفق سياسي غير قابل للتجاوز رغم متطلبات وإكراهات العولمة.

في السياق العربي الراهن، حيث نعيش تحلل وانهيار نموذج الدولة في ساحات عديدة، نحتاج إلى أطروحة بتيت في إعادة النظر في المسألة السياسية المطروحة بطريقة حادة في أيامنا.

قبل التحولات الكبرى التي عرفها العالم العربي في العقد الأخير، كان التفكير في الدولة يتم غالبًا من خلال مسارين: العلاقة المتوترة بالدولة الوطنية التي أطلقت عليها تسميات من قبيل دولة التجزئة والدولة القطرية في الخطاب القومي العربي، بينما اعتبر آخرون أنها غير مؤهلة لتحقيق أهدافها الشرعية المتمحورة حول التطلعات التنموية الكبرى نتيجة لقاعدتها الاجتماعية الضيقة (الطائفية والعشائرية)، ومحاولات استنبات وأقلمة معايير الإصلاح الديمقراطي والمؤسسي خصوصًا بعد اعتماد هيئات التمويل الدولي إجراءات الخصخصة وتشجيع المجتمع المدني في إطار المفهوم الجديد للتنمية الإنسانية المستدامة.

كان المفكر المغربي المعروف عبد الله العروي يتساءل في بداية الثمانينيات: هل يمكن للدولة العربية الحديثة التي نشأت عن التنظيمات العثمانية وإن حملت جانبًا من مقومات الدولة السلطانية الوسيطة أن تستوعب قيم المدنية الليبرالية المعاصرة؟ ولقد خلص من خلال تحليله الأيديولوجي إلى أن التحديث لم يخرج من اعتبارات المثالية الطوبائية في الخطاب السياسي الرائج، بما يعبر عن عجز بنيوي عن استيعاب محددات الشرعية القانونية البيروقراطية للدولة القومية الحديثة.

بعد مرحلة الربيع العربي، ظهر أن الدولة العربية في كثير من الساحات التي شهدت مسار التغيير العنيف والجذري هشة البناء المجتمعي والمؤسسي، وعاجزة عن دفع ثمن التحول الليبرالي الذي راهنت عليه النخب الديمقراطية في العقود الماضية.

وهكذا تجدد السؤال الذي طرحه في بداية التسعينيات غسان سلامة حول إمكانية تحقيق دولة ديمقراطية من دون ديمقراطيين، وكان يعني وقتها غياب نخب ليبرالية فاعلة قادرة على حمل التطلعات الديمقراطية وتمريرها بطريقة آمنة إلى السياق العربي. لم يكن سلامة وغيره ممن شارك في هذا النقاش الجوهري يتوقعون انهيار الدولة الوطنية العربية بعد المحاولات الأولى لإصلاحها الليبرالي، وما تعيشه بلدان عديدة راهنًا من حروب أهلية وصراعات داخلية حادة لا يمكن إرجاعه إلى عوامل خارجية صرفة ولا إلى عوائق بنيوية ثقافية أو مجتمعية، بل له علاقة بديهية بمعايير البناء السياسي المنظم التي تم الالتفاف عليها في استراتيجيات النخب الحزبية المتصارعة على مركز الحكم والسلطة.

الأمر هنا يتجاوز الجدل حول المسارات الانتقالية العربية، ويتنزل في موضوع السلطة التأسيسية الذي تم إهماله، انطلاقًا من نماذج جاهزة للحكامة تتلخص في آليات التنظيم والانتخاب التنافسي التي قد تكون في بعض الحالات خطرًا على الممارسة الديمقراطية نفسها، وبطبيعة الأمر على السلم الأهلي.

كان هيغل يقول إن بناء الدولة القوية والمتماسكة هو شرط التعبير الموضوعي والسلمي عن حرية الأفراد وحيوية المجتمع المدني، بما يعني أن السياسة ضرورة قصوى لتحقيق العدالة والقانون ومن دونها لا سبيل لضمان حقوق الإنسان الأولية.