كثر الحديث في أيامنا حول تركة ابن خلدون، الذي كثيراً ما ينظر إليه على أنه مؤسس علم الاجتماع الحديث، وتعتبر نظريته في العصبية والدولة، صالحة لقراءة التاريخ العربي الإسلامي، بل وفهم الواقع السياسي العربي المعاصر.
ومع أن الرجل لم يدع كونه أكثر من مؤرخ، وقد سمى علمه “علم العمران” وحصر اهتمامه في المجتمعات العربية الوسيطة، إلا أن نظريته لا تزال تستخدم على نطاق واسع من حيث هي أطروحة علمية دقيقة وموضوعية، لا تختلف في شيء عن مناهج ونظريات العلوم الإنسانية الحديثة.
منذ ساطع الحصري، وطه حسين، وعلي الوردي إلى محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي ومحمد جابر الأنصاري، نلمس نفس الافتتان بابن خلدون ودراساته حول القبيلة والدولة في التاريخ العربي الإسلامي.
ليس من همنا الحد من قيمة أفكار ابن خلدون، فلا أحد يشك في أنه قدم مقاربة مهمة للوضع السياسي في المجتمعات القبلية، وانتبه إلى دور الدعوة الدينية في بناء نظم سياسية مركزية. لكن؛ ما يتعين الإشارة إليه هو أن النموذج الخلدوني محصور الصلاحية في التاريخ العربي ما قبل القرن الرابع عشر الميلادي، ولا يتناسب مع التحولات السياسية والمجتمعية الكبرى التي حدثت في العصرين المملوكي والعثماني، ولا مع الوضع الراهن للمجتمعات العربية التي تشكلت مع نشأة الدولة الوطنية الحديثة.
يتعلق الأمر هنا أولاً بالنموذج السلطاني المختلف عن الخلافة الإسلامية، وهو نموذج يتأسس على السلطة العسكرية والمركزية الإدارية وفاعلية المجتمع الأهلي في استقلاليته النسبية عن الدولة، كما أنه يرتكز على الاندماج في الاقتصاد العالمي من خلال تكثيف التبادل التجاري مع الدول الأوروبية عبر موانئ البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي أساساً.
إلا أن الدولة المملوكية عانت من الاختراق البرتغالي لشرق المحيط الهندي إثر اكتشاف رأس الرجاء الصالح سنة 1497، وما نتج عنه من قطع “طريق البخور” الرابطة بين الشرق الأوسط والشرق الأقصى. كما أن قيام الدولة الصفوية في إيران سنة 1501، شكل تهديداً قوياً للسلطنة المملوكية، خصوصاً بعد استيلائها على العراق عام 1508، واستهدافها بلاد الشام.
ومنذ بداية القرن السادس عشر، انقسمت الدولة المملوكية ما بين سلطنات إقليمية، وخرجت مناطق عديدة عن سلطة السلاطين المماليك، ما مهد الطريق للدولة العثمانية التي أحكمت قبضتها منذ القرن السادس عشر على مجال واسع ممتد من البلقان إلى شمال إفريقيا عبر المشرق العربي، على خط التماس مع الإمبراطوريتين الفارسية والمغولية الهندية.
ما يتعين التنبيه إليه هنا، هو أن الدولة العثمانية طورت آليات ومناهج للحكم والسلطة تختلف نوعياً عن الخلافة الكلاسيكية، بإنشاء بيروقراطية عسكرية وإدارية تدير شؤون الحكم، مع الاعتماد في مناطق الإمبراطورية ممتدة الأطراف على زعامات محلية تتمتع بصلاحيات واسعة.
لقد تشكل هذا النظام السياسي من خلال الاحتكاك بالدول الأوروبية الصاعدة بداية من القرن الثامن عشر: روسيا التي استولت على شبه جزيرة القرم سنة 1782، مركزة نفوذها في البحر الأسود؛ وفرنسا وبريطانيا اللتان شرعتا منذ بداية القرن التاسع عشر في سياسة ثلاثية تكمن في دعم القوميات الانفصالية في البلقان، وفرض الحماية القنصلية في مراكز السلطنة العثمانية، والسيطرة الاستعمارية المباشرة في شمال إفريقيا.
لقد واكب هذا الدور الأوروبي المتزايد قيام مشروع إصلاحي تحديثي واسع اضطلع به السلاطين العثمانيون من أجل إعادة بناء الأجهزة البيروقراطية والعسكرية للدولة، وتكريس نظام المواطنة المتساوية، مع منح الجماعات الدينية والطائفية استقلالية موسعة وفق صيغ وهياكل قانونية وتنظيمية جديدة.
إلا أن مسار الإحياء القومي الذي بدأ مع الانتفاضة اليونانية سنة 1821، وسمح بانفصال دول البلقان المسيحية (اليونان، وبلغاريا، ورومانيا، وصربيا) وصل في نهاية المطاف إلى قلب الأناضول بانبثاق حركة “تركيا الفتاة” التي بنت الدولة التركية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية المتداعية.
ما نستنتجه من هذه المعطيات التاريخية هو حقائق أربع، هي: أولاً؛ أن الحالة العصبية بالمنظور الخلدوني لم تعدد محددة ولا حاسمة في تركيبة الدولة الإسلامية ما بعد العباسية. وإذا كانت بوادر هذا التراجع جلية في السلطنة السلجوقية التي كرست ازدواجية النظام السياسي في الدولة الإسلامية، إلا أن جوهر الحكم قد انتقل منذ العصر المملوكي إلى المراكز البيروقراطية العسكرية، ولم تعد القبيلة مؤثرة نوعياً فيه إلا داخل الأطراف البدوية القصية.
ثانياً؛ أن العالم الإسلامي منذ العصر المملوكي، اندمج في الدورة المتوسطية في حقبة النهضة الأوروبية، ولا يمكن إهمال هذا التحول البارز الذي له أثره المكين على التركيبة السياسية للدولة المسلمة. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، وبداية الصعود الصناعي والليبرالي الأوروبي، غدت علاقات السلطنة العثمانية مع الممالك والدول الأوروبية محورية في طبيعة تطور الأوضاع السياسية في الدولة الإسلامية الكبرى.
ثالثاً؛ على الرغم من تبني السلاطين العثمانيين في بعض المراحل شعار الخلافة، إلا أن هذه الدولة تعايشت مضطرة مع نظام إسلامي تعددي، من مكوناته: الدولة الصفوية الشيعية؛ والدولة المغولية في الهند؛ والسلطنة العمانية؛ والسلطنة العلوية في المغرب الأقصى. ولهذا الواقع التاريخي نتائجه على مستوى شرعية الدولة وعلاقتها بالدين.
رابعاً؛ مع أن الدولة العثمانية كانت تسمى بالسلطنة أو الخلافة الإسلامية الكبرى، إلا أنها كانت في الواقع إمبراطورية متنوعة دينياً وقومياً، إذ يشكل المسيحيون الأغلبية المطلقة في مكونها البلقاني (بل إن بعض الدراسات التاريخية أكدت أن النمو الديمغرافي المسيحي شهد طفرة كبرى غير مسبوقة في العصر العثماني)، كما أن اليهود يضطلعون فيها بدور أساسي في الاقتصاد والإدارة. وبطبيعة الأمر لم تطبق الدولة العثمانية على شعوبها غير المسلمة الأحكام الفقهية المتعلقة بالجماعات غير المسلمة، بل إنها وضعت نظاماً للمِلل يحمي حقوق الأقليات الدينية في سياق ترتيبات إدارية شاملة لضبط التنوع العقدي داخل الإمبراطورية.
وهكذا نخلص إلى القول إن النظرية الخلدونية لا تصلح في دراسة وتصور الدولة السلطانية التي حكمت العالم الإسلامي خلال ستة قرون متواصلة، قبل أن تعوضها الدولة الوطنية الحديثة التي هي بناء سياسي جديد لا صلة له بعلم العمران الخلدوني.