الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الديمقراطية الاستثنائية ومستقبل الليبرالية الكونية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

أجني مريو؛ باحثة فرنسية هامة في الأنظمة السياسية والقانون الدستوري، صدرت لها مؤخراً أعمال هامة حول الديمقراطية الليبرالية وتجارب تطبيقها في العالم الراهن.

ما تتميز بها كتابات مريو هو تفكيك الأطروحة السائدة حول تصادم الحرية السياسية والاستبداد السلطوي في الديمقراطيات الليبرالية، مكررة فكرة دي تكوفيل في القرن الثامن عشر حول الديمقراطية من حيث “هي صيغة من صيغ الهيمنة السياسية”.

للتدليل على هذه الأطروحة، تبين مريو أن الديمقراطية الليبرالية لم تتشكل تاريخياً إلا انطلاقا من محددين أساسيين هما: تحكم الدولة في سلطة الاستثناء التي هي المرجعية العميقة للقانون العمومي، وإقصاء مجموعات واسعة من الشرعية المدنية من أجل منحها لجسم المواطنة في دلالتها الضيقة.

المحدد الأول، هو ما كان درسه بوضوح وعمق الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت، معتبراً أن الفراغ المعياري في وضع القوانين التأسيسية للمجتمعات الليبرالية يعني في نهاية المطاف منح الأولوية المرجعية المطلقة للاستثناء والتحكم غير المقيد، ما دام مفهوم السيادة لا يعني سوى التمتع الكامل والمطلق بسلطة القرار الاستثنائي.

 وعلى عكس ما يعتقد لم تتغير هذه المعادلة مع تطور المجتمعات الديمقراطية الحرة، إذ لا تزال إجراءات الرقابة والتحكم والاستثناء هي جوهر الفعل السياسي، إلى حد حديث البعض عن الانتقال إلى نمط “رأسمالية الرقابة” في الآونة الأخيرة، أو تعميم “تقنيات الوشم السياسي” حسب عبارة الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن، ويعني بها تطبيع إجراءات جنائية كانت خاصة بالمجرمين المدانين.

لا تزال المنظومات الدستورية في الديمقراطيات العريقة تتضمن مواد قانونية تطبق في ظرفيات الاستعجال والاستفتاء، بما يمكن التمثيل له في المادة ١٦ من الدستور الفرنسي التي تسمح لرئيس الجمهورية بانتزاع كل السلطات التنفيذية والتشريعية في حالات الضرورة القصوى.

 إلا أن الحقيقة التي لا بد من التأكيد عليها هنا، هي أن كل الأنظمة الديمقراطية الليبرالية تعاني حالياً من التناقض بين آلياتها التنظيمية الإجرائية التي تكفل مبدئياً الحريات والحقوق وواقع التوازنات السياسية القائمة التي تكرس تحكم فئة أوليغارشية بيروقراطية معزولة عن الواقع الاجتماعي، بما ينعكس في ردة فعل القاعدة العريضة التي تحركها التيارات الشعبوية الراديكالية وتظهر عزوفاً متزايداً عن المشاركة في الحياة السياسية المنظمة.

لقد اعترف بهذه الحقيقة منذ عقود عالم الاقتصاد الأمريكي الشهير ميلتون فريدمان (مؤسس مدرسة شيكاغو) حين أعلن الانفصام المتزايد بين السوق الحرة والليبرالية، معتبراً إمكانية قيام اقتصاد حر ناجح في ظل نظام استبدادي، وإمكانية تعايش دولة القانون مع التحكم السلطوي. وقد كان في حديثه يعني تجارب النهوض الاقتصادي الناجحة في الصين ودول شرق آسيا.

ما تؤكده أطروحة فريدمان هو أنه لا توجد علاقة تلازمية بين الديمقراطية الليبرالية والأهداف الثلاثة التي ربطها بها الفكر الليبرالي وهي: السلم الأزلي بالمفهوم الكانطي (ميل الديمقراطيات التلقائي للسلم وعدم الاعتداء) مع واجب الإقرار بتنامي العنف والحروب مع الأنظمة الديمقراطية الحديثة، والرفاهية الاجتماعية التي يفندها واقع التمايز الطبقي وتزايد التفاوت المجتمعي، والانعتاق عن طريق المشاركة الشعبية التي تحولت كما بينا إلى صناعة متجددة لسيطرة النخب المهيمنة دون إمكانات تداول حقيقي على السلطة.

المحدد الثاني، ظهر منذ فكر الأنوار الأوروبي في اتجاهه لربط الحرية والمساواة بطبيعة المجتمعات الغربية، انطلاقاً من معيار العقلنة النظرية والمجتمعية، بما نلمسه بوضوح في كتابات رواد التنوير مثل مونتسكيو وفولتير. ولقد أسس عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر على أساس هذه الرؤية أطروحته حول الشرعية السياسية في المجتمعات الحديثة، باعتبار أن ما يميز الديمقراطيات الليبرالية الغربية هو سيادة القانون في النظام السياسي والتدبير المؤسسي في مقابل أشكال “الاستبداد الشرقي” و”الأنظمة السلطانية الفردية”.

إلا أن هذا الإقصاء له انعكاساته العملية في طبيعة ضبط معايير المواطنة المتمتعة بحقوق المواطنة الكاملة.

في هذا السياق، تشير أجني مريو إلى أن الفكر الليبرالي الكلاسيكي حصر منذ البداية معايير الحقوق والمواطنة في الجوانب الاقتصادية المالية حتى في محددات المشاركة الانتخابية، كما أن هذا الفكر بلور منذ بدايته فكرة الترابط العضوي بين المواطنة الإدماجية والإقصاء المتعمد للآخر، سواء كان “البدائي” المستعبد والمستعمر، أو العمالة المستغلة أو الفئات الاجتماعية المضطهدة (في مقدمتها النساء اللواتي لم يتمتعن بحقوق المواطنة الكاملة إلا في عصور متأخرة).

لقد برزت هذه التوجهات واضحة لدى جون لوك ومونتسكيو ودي تكوفيل، انتهاءً بفريدمان وحايك في الفترة المعاصرة، وأساسها هو الاحتفاظ بازدواجية جوهرية في نظام الحقوق بين مجموعات متمايزة لا تتمتع بنفس الامتيازات والاستحقاقات الأصلية.

هل يمكن بالاستناد إلى أطروحة أجني مريو القول بانعدام فروق حقيقية بين الديمقراطية الليبرالية والاستبداد الاستثنائي؟

للإجابة على هذا السؤال، لا بد من الإشارة إلى التفريق بين نوعين من التسلطية، هما الديكتاتورية الفردية العنيفة التي تقوض قيم الكرامة الإنسانية جذرياً، والأحكام الاستثنائية التي تحترم معايير القانون والنظام المؤسسي دون أن تعتمد إجراءات التنظيم السياسي الحر.

في عصور الأنوار أطلق على هذا النموذج الثاني مقولة “الاستبداد المتنور” وكان الفيلسوف والأديب الفرنسي فولتير سباقاً إلى الافتتان النموذج الصيني الذي اعتبره مثالاً لهذا النمط من الاستبداد المقبول.

وفي أيامنا، يتحدث الكثير من الناس عن مزايا النظام الصيني المعاصر من حيث النجاعة الاقتصادية والإبداع العلمي والتقني والاندماج الاجتماعي والطابع السلمي الاستراتيجي. بيد أن للأنظمة التسلطية على اختلاف أنواعها مشاكل وسلبيات كثيرة لا يمكن حصرها، ولذا فإن مطلب الحرية السياسية والمشاركة المدنية لا يمكن التنازل عنه في السياق الراهن، بل يدخل في صلب القيم الحداثية الكونية المشتركة بين مختلف المجتمعات البشرية.

المطلوب إذن؛ مراجعة اختلالات الديمقراطية الليبرالية في جوانبها النظرية والمؤسسة، لتخليصها من شوائب التسلطية الاستبدادية والازدواجية المعيارية، وهو المجهود المنوط اليوم بالفكر القانوني والسياسي غير الغربي أن أراد أن يساهم بجدية وفاعلية في تجديد وتفعيل المنظومة الليبرالية لتصبح في حقيقتها كونية وعالمية.