في أصول الفكر الليبرالي الديمقراطي، يمكن أن نميز بين تقليدين محوريين، يعود أحدهما إلى مونتسكيو والآخر إلى جان جاك روسو، وهما حسب الفيلسوف والأديب تزفيتان تودوروف مرجعية الفكر الليبرالي الحديث.
ما كان يهم مونتسكيو ليس طبيعة السلطة نفسها، سواء أكانت ملكية أو ارستقراطية أو ديمقراطية، وإنما نمط إدارة الحكم. فالحكم يكون شرعيًا عندما لا يكون مطلقًا غير محدد، بما يقتضي الحد منه إما بالقوانين أو عن طريق سلطة أخرى. وهكذا طرح مونتسكيو فكرة الفصل بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، بما يكفل قيام نظام حكم عادل ومتوازن، يتناقض مع السلطة الاستبدادية المطلقة.
أما بالنسبة لروسو، فالأساس هو الاستقلالية، أي أن يكون الفعل صادرًا عن إرادة حرة أو عن قانون يجسد الإرادة الجماعية المشتركة. فالنظام لا يكون شرعيًا إلا عندما يتأسس على القانون الذي يختاره المواطنون طواعية وبإرادتهم الحرة. فالمهم هنا ليس الطريقة التي يمارس بها الحكم وإنما طريقة تأسيسه.
لقد انساق الفكر الليبرالي العربي نحو شكليات الممارسة الديمقراطية التي تتلخص أساسًا في مقتضيات التعددية السياسية المنظمة والانتخابات الحرة النزيهة، واعتبرت هذه المتطلبات هي مقياس الديمقراطية الصحيحة المستقرة. ومن هنا غابت الإشكاليات الأصلية التي ينبني عليها التقليد الليبرالي وهي الفصل بين السلطات، وحكم القانون المعبر عن الإرادة المشتركة.
فمن الجلي ان التعددية الشكلية والإجرائية لا تولد بذاتها مجتمعًا ديمقراطيًا، وإنما كانت نظمًا مؤسسية اخترعتها الماكينة الديمقراطية في ظروف محددة لتجسيد المبادئ والمعايير الديمقراطية من استقلالية الإرادة والفصل بين السلطات.
لم تكن فكرة التمثيل والتفويض النيابي مقبولة في الفلسفة الديمقراطية أصلًا، والدليل هو قول روسو الواضح “إن السيد الذي لا يتسنى النظر إليه إلا بصفته كلًا جماعيًا، لا يمكن أن يمثل إلا نفسه، فالسلطة يمكن أن تنتقل، أما الإرادة فلا تنتقل”. بالنسبة لروسو، لا معنى لتمثيل الحكم الجماعي الكلي بفرد أو مجموعة أفراد، ولا سبيل لتفويض الإرادة المشتركة في أي نظام مؤسسي.
لم يكن روسو بدعًا من فلاسفة ومفكري الديمقراطية الذين انطلقوا كلهم من مرجعية “السيادة المطلقة للشعب”، ورأوا في آلية التمثيل انتهاكًا لهذه المرجعية، حتى لو كانوا واعين باستحالة الديمقراطية المباشرة في المجتمعات الحديثة المعقدة.
لم تظهر مقولة “الديمقراطية التمثيلية” إلا في نهاية القرن الثامن عشر، وقد اعتبرها البعض حلًا توفيقيًا مؤقتًا وناقصًا بين سلطة
الشعب والنظام الارستقراطي، بينما رأى آخرون أنها تكرس سلطة الخبير والتقني المختص على حساب اختيار المواطن الحر.
في الكتاب الثالث من “العقد الإجتماعي”، يذهب روسو إلى حد القول إن الديمقراطية لم توجد تاريخيًا ولا يمكن أن توجد مستقبلًا، بل قد تكون محصورة في مجتمع من الآلهة، أما البشر العاديون فلا يناسبهم نظام كامل يعبر عن إرادتهم المشتركة الحرة.
بعد الثورات السياسية والدستورية التي عرفها الغرب منذ نهاية القرن الثامن عشر، تبلورت فكرة الديمقراطية التمثيلية، التي تعني إعادة تصور مفهوم الشعب السيادي، في شكل نظام الدولة القومية، مع التفكير فيه أحيانًا في شكل المجتمع المدني أو المجال العمومي.
الدولة تعني هنا الكيان الوطني القادر على تمثيل الأفراد الذين يعيشون في رقعة جغرافية معينة، وتربطهم وشائج المواطنة القوية التي لا بد أن لا تقوم إلا في إطار هوية سياسية منظمة. ومن هنا انتقل مبدأ السيادة من الفرد ذي الإرادة الحرة المطلقة إلى الدولة التي هي حقل التجسيد العملي لحقوق وحريات الأفراد. وهكذا، ندرك العلاقة العضوية بين مسار تشكل الدولة القومية المركزية والنظام التمثيلي النيابي.
إلا أن سيادة الدولة دون مجال عمومي يحمي الحريات الفردية الأساسية يمكن أن تفضي إلى السلطة الاستبدادية المغلقة باسم
منطق الدولة السيادي، ومن ثم برز المفهوم القانوني الليبرالي للشعب من حيث هو منظومة من الحقوق والحريات لها الأولوية على اعتبارات السيادة الوطنية، كما نجم عن إرث الثورات الليبرالية الكبرى في الغرب (في بريطانيا، وفرنسا وأمريكا على الأخص).
الشعب هو أيضًا حالة شعورية يمكن أن تتحول إلى خطر حاد في غياب وسائط مؤسسية فاعلة، كما هو شأن الأنظمة الشعبوية الصاعدة راهنًا في المجتنعات الليبرالية الغربية. ومن هنا كانت أهمية النظم والمؤسسات الدستورية التي تحمي استقلالية الفرد وحقوقه، وتضمن توازن السلطات وتحول دون أشكال الاستبداد المقنع.
كُتب الكثير في السنوات الأخيرة عن أزمة الديمقراطية التمثيلية، واستند البعض إلى ضعف الأحزاب السياسية وإحجام جل المواطنين عن المشاركة في الانتخابات العامة في نظرته التشاؤمية العدمية للتجارب النيابية التي لم تعد قادرة على استقطاب القاعدة المجتمعية العريضة.
ولا شك في أن لهذه الملاحظة جانبًا كبيرًا من الصحة، إلا أن البعض يتناسى أن الممارسة الديمقراطية لا تنحصر في اللحظة الانتخابية رغم أهميتها وضرورة مراجعة محدداتها الإجرائية، بل إن الديمقراطية تقوم أيضًا على مطالب إضافية في مقدمتها التداول العمومي الحر والمشاركة السياسية الفاعلة.
قد تتضمن الممارسة الانتخابية دلالة المشاركة، لكنها لا تستوعبها كليًا ولا تتماهى معها، بل إن المشاركة قد تأخذ شكلًا غير ليبرالي كما تدل العديد من التجارب ما قبل الديمقراطية. فالمعيار في المشاركة هو التناغم بين السلطة السياسية الحاكمة وقاعدتها المجتمعية، حتى لو كان من الضروري اليوم أن يأخذ هذا التناغم طابعًا مؤسسيًا مقننًا ودقيقًا. وفي بعض الأحيان، تكون النظم المؤسسية نفسها عائقًا أمام المشاركة الحقيقية الفاعلة، كما يحدث في أنظمة الحكم التي تضطهد الأقليات باسم أصوات الأكثرية الانتخابية.
أما التداول العمومي، فهو الشرط القبلي لتحرير الإرادة الفردية وتأهيلها للمشاركة العقلانية الفاعلة، كما أنها الموجه الضروري للديناميكية الانتخابية حتى لا تتحكم فيها القوى الاستبدادية القادرة على احتواء خيارات الناس وتمويهها بطرق عديدة مختلفة.
وهكذا نخلص إلى القول إن الديمقراطية الانتخابية من دون مقومات المشاركة الحرة والتداول العمومي العقلاني، تقود في غالب الأحيان إلى الاستبداد والتحكم المطلق بمظلة شرعية زائفة.