قررت مؤخرًا الحكومة الفرنسية تحريم ارتداء العباءة النسوية في المدارس العمومية، بعد سنوات من منع ما يسمى بالحجاب في التعليم الحكومي، انسجامًا مع مبادئ العلمانية التي تمنع إظهار الرموز الدينية في المجال العمومي.
وبغض النظر عن النقاش حول طبيعة “الزي الإسلامي” وهل يدخل في باب الرموز الدينية، طرح النموذج اللائكي الفرنسي في ضبط الموضوع الديني إشكالات نظرية ومعقدة في الإطار الغربي الواسع، حيث ينظر إلى النموذج الفرنسي بأنه راديكالي ومتشدد في معالجته للمسألة الدينية في المجال العمومي.
فإذا كانت كل الدول الغربية اعتمدت نظام الفصل بين السلطات وتبنت منظومة الحقوق الليبرالية، إلا أنها لم تتفق في تحديد منزلة الدين في الميدان العمومي.
ومن المعروف أن بعض الدول الليبرالية الغربية نصت في دساتيرها على ديانة رسمية للدولة مثل الدنمارك، وأيسلندا، وفنلندا، وبلغاريا، واليونان ومالطا، كما أن في بعضها يشكل الدين محورًا رئيسًا من محاور الهوية الجماعية العامة مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
ويمكن أن نميز في التجارب الغربية بين ثلاثة نماذج في إدارة المجال الديني في الحقل العمومي، بحسب السياقات الدستورية والسياسية :
- النموذج الليبرالي الكلاسيكي الذي يركز على معايير الحرية والمساواة من منظور المواطنة القانونية المستقلة عن الخيارات الثقافية والدينية الفردية، أو الهويات العضوية الخصوصية. وقد أفضى هذا النموذج مع جون رولز وريتشارد دوركين إلى بناء نظرية للعدالة التوزيعية للحقوق والموارد وفق قواعد التعددية الاجتماعية، التي تمنع على الدول تشجيع أو اعتماد تصور عمومي للخير الجوهري أو للحياة الناجحة والاكتفاء بتمكين الأفراد من حرية الاختيار العقدي والمعنوي ضمن المعايير الإجرائية للتعايش المشترك. الدين من هذا المنظور يدخل في باب المعتقدات الجوهرية التي لا يمكنها النفاذ إلى الحقل العمومي .
- النموذج المجموعاتي الذي يرى أن الفرد ينتمي ضرورة إلى سياق ثقافي ومجتمعي لا يمكنه الانفكاك منه، ومن ثم فإن على المؤسسات السياسية أن تجسد النظم الاجتماعية المتقاسمة والمهيمنة لكونها هي الأطر الجماعية للهويات الفردية، ولا معنى لحياد الدولة إزاءها لكونه يتعارض مع المبدأ الديمقراطي المتمثل في سيادة المجموعة واحترام اختياراتها. ومع أن مفكري المدرسة المجموعاتية مثل ماكنتير وصاندل وتايلور، حافظوا على الإطار الليبرالي من حيث قيم الحرية والاستقلالية، إلا أنهم انتهوا إلى القول بنمط من التعددية الثقافية المرتكزة على معايير التسامح والاعتراف دون التعرض للإشكالات النظرية والمفهومية ذات الصلة بالمرجعية الدينية اعتقادًا وسلوكًا.
- النموذج الجمهوري الذي ذهب في نسخته التقليدية إلى تخويل الدولة مسؤولية حماية استقلالية وحرية الأفراد ولو عن طريق التدخل القمعي، بما يترتب عليه من اصطدام بالهويات الدينية والثقافية للمجموعات التي تنافس الدولة في تنشئة الأفراد وتأطير وعيهم. بيد أن تيار “الجمهورية النقدية” الذي تبلور في سياق فكر الفيلسوف الإيرلندي فيليب بتيت ذهب إلى رفض وصاية الدولة على وعي الأفراد، طارحًا خيار “اللاهيمنة “Non-domination في مستوييه العمودي والأفقي .
الهيمنة العمودية (Dominium) هي التي تمارسها الدولة على الأفراد من منطلق المصلحة العليا للأفراد وهي مفارقة النظم الليبرالية التي تسلط القمع على مواطنيها من أجل “تحريرهم” بالقوة من هوياتهم الدينية والثقافية. أما الهيمنة الأفقية (imperium) ، فهي التي تمارسها السلط الاجتماعية على الأفراد باسم الموروث، والأعراف والتقاليد الملزمة. ومن هنا فإن النزعة الجمهورية المدنية أو النقدية تريد أن تحرر الأفراد من هذين النمطين من الهيمنة، بما يعني إعادة بناء علاقة الدولة بمعتقدات وهويات الأفراد الثقافية، وفي مقدمتها الأديان التي لا معنى لنفيها من الحقل العمومي الذي هو في نهاية المطاف نسف لحقوق الأفراد في الاعتقاد والتفكير.
تعالج سيسيل لابورد هذه المعضلة في كتابها الأساسي “ديانة الليبرالية” (Liberalism’s Religion) مقترحة ما أطلقت عليه “العلمانية الدنيا” (Minimal Secularism).
وتعني بهذه العبارة النظر إلى الدين في جوانبه المختلفة، من حيث هو في آن واحد منظومة اعتقاد ورؤية للعالم، ومرتكز هويات ثقافية واجتماعية، ومنظومة قيم ومعايير سلوكية. ومن هنا لا بد للدولة في ضبطها للمسألة الدينية أن تتعامل مع هذه الأبعاد المركبة للظاهرة الدينية بدلًا من أن تعتمد نظام الفصل الميكانيكي بين الدين والسلطة العمومية لحماية الحريات والسلم الأهلي، مع تجاهل دور الدين الإيجابي في بعض الحالات كقوة دافعة للمدنية والتسامح.
وهكذا تقترح لابورد مبادئ ثلاثة في مقاربتها العلمانية الدنيا هي: النفاذ إلى العقل العمومي (ترجمة المضامين اللاهوتية والقيمية إلى لغة العقل البرهانية) والمساواة المدنية (أي تكريس المواطنة الشاملة دون تمييز على أساس ديني أو عقدي) والحرية الأخلاقية (عدم إكراه الناس على تصورات قيمية معينة).
إذا احترمت هذه المعايير الثلاثة، لا يهم شكل النظام السياسي الذي قد يتبنى ديانة رسمية للدولة دون أن يتنكر لحقوق الأفراد في الانتماء ودون أن ينتهك منظومة الحقوق المدنية والسياسية التي تحمي الإنسان وتصون كرامته.
بالتفكير في وضع المجتمعات العربية التي هي في الأساس مجتمعات مسلمة، يظهر أنها ضبطت المسألة الدينية من منظور النص دستوريًا على أن الإسلام هو دين الدولة، مع اختلاف في اعتبار الشريعة المصدر الوحيد للقانون، أو المصدر الأساسي أو أحد المصادر الرئيسية.
وغني عن البيان أن هذه المرجعية الدستورية الإسلامية لم تحل دون اعتماد مدونة حقوق الإنسان في مرتكزاتها ومحدداتها المختلفة، كما لم تكن مانعًا لتبني النظام الليبرالي التعددي سياسيًا في كثير من البلدان العربية والإسلامية.
كان المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري يقول إن المسألة العلمانية طرحت غلطًا في السياق العربي، حيث لا معنى للفصل بين الدولة والدين، وإنما الحاجة الحقيقية هي إلى العقلانية والديمقراطية وهما قيمتان لا تتعارضان مع ثوابت الإسلام ومرجعياته المعيارية.
وفضلًا عن كون التقليد الإسلامي لا يمكن أن يتأقلم مع فكرة تجسيد الدولة -بما هي حالة دنيوية سياسية- للدين في مفهومه الروحاني المطلق، فإن التدبير العمومي للحقل الديني مبرر في المجتمعات المسلمة بضرورة صون الدين عن التوظيف السياسي والاستخدام في الصراعات السياسية الظرفية .
ومن هنا يمكن القول إن المبادئ الثلاثة التي ذكرتها سيسيل لابورد تنسجم دون إشكال مع التقليد الإسلامي.