روبير كاغان عالم سياسي أمريكي معروف، حذّر مؤخرًا في مقال منشور بمجلة “ذي أتلانتيك” من انغلاق قوس الديمقراطية الذي عرفه العالم الغربي لمدة قرابة ثلاثة قرون. بالنسبة لكاغان، ما نشهده راهنًا هو انبثاق مسلك الاستبداد من داخل الأنظمة الديمقراطية نفسها، بما يتجسد في صعود أنظمة سياسية منتخبة تنتهك قواعد دولة القانون والفصل بين السلطات، وتجمع بين أدوات التحكم التقني الجديدة والخطاب الشعبوي المناهض للقيم والأفكار الليبرالية.
ليس رأي كاغان نشازًا في الأدبيات السياسية الحالية في الغرب، ففي كل يوم تنشر كتب وأبحاث حول نمط الديمقراطية غير الليبرالية وتراجع الحريات العامة في قلب المجتمعات الليبرالية الغربية.
وقد يكون من المناسب أن نرجع إلى التمييز الشهير الذي أقامه أرسطو بين الاستبداد الذي يتعلق بأفراد غير أحرار يعانون من التحكم الإكراهي والديكتاتورية التسلطية التي قد تتخذ غطاء أخلاقيًا يغري بالولاء لها، كما هو شأن الأنظمة الأيديولوجية العنيفة التي ينقاد لها الناس طواعية.
إلا أن أرسطو نفسه يميز أيضًا بين الاستبداد والطغيان الذي هو حالة قطيعة مع النظام الطبيعي للأشياء والتقليد الاجتماعي القائم، في حين أن الاستبداد قد يكون عاديًا وملائمًا في الأطر العائلية والمنزلية.
ولقد نبهت حنة آرندت في أعمالها السياسية إلى ظاهرة “التوتاليتارية” الحديثة التي اتسمت بها التجارب النازية والشيوعية، بصفتها تختلف عن
الاستبداد التقليدي من حيث استنادها إلى مرجعية أيديولوجية تحتكر الحقيقة المطلقة وتُخضع لها المجتمع باسم العلم والموضوعية.
لا مناص من الاعتراف أن منظومة التنوير الحديث قد قوضت جذريًا التصورات الاستبدادية للسياسة، كما أن نهاية الحرب الباردة أدت إلى نسف آخر الأنساق التوتاليتارية وهي الماركسية التي كانت تدعي اكتشاف قوانين التاريخ وعلم المجتمعات. ومن ثم أمكن لفوكوياما أن يقول إن الليبرالية ربحت نهائيًا معركة المرجعية السياسية بما رمزت له مقولة “نهاية التاريخ” الشهيرة.
الاستبداديات الجديدة إذن لا يمكنها منافسة النظرية الديمقراطية أو الخروج عليها، بل تبرز خطورتها في كونها تنبع من داخل التجربة الديمقراطية وعبر تصدعاتها الذاتية في عدة مستويات من أبرزها:
- ما سماه ألكسيس دي توكفيل في القرن الثامن عشر ديكتاتورية الأغلبيات المنتخبة في نظام سياسي يماهي بين الإجماع الاجتماعي والموازين العددية. ومع أن دي توكفيل اكتفى وقتها بالإشارة إلى خطورة تسليم السلطات المطلقة لنظام منتخب باسم الشرعية المكتملة المانعة لكل احتجاج واعتراض، إلا أن الوضع تفاقم في السنوات الأخيرة بالانفصام المتزايد بين مبدأ سيادة الشعب الذي هو الأساس المعياري للشرعية السياسية، ومقتضيات الحفاظ على التعددية والتوازن المؤسسي التي هي مقياس صحة المجتمعات الديمقراطية. لقد وصل الأمر في بعض البلدان الغربية أن اعتبر الانتخاب تفويضًا مطلقًا بالتحكم في القرار العمومي دون أي سقف قانوني أو مؤسسي، بما يعني عمليًا إلغاء الحالة الديمقراطية بكاملها.
- الخروج من مفهوم “المجتمع المفتوح” الذي ميز به كارل بوبر النظام الديمقراطي إلى مجتمع الرقابة والضبط الشمولي الذي هو السمة الغالبة اليوم على الواقع الغربي الراهن. عندما كتب بوبر كتابه “المجتمع المفتوح وأعداؤه” سنة 1945، كان غرضه هو الدفاع عن قيم العقلانية والإنسانية في مواجهة النزعة التاريخانية الهيغلية الماركسية التي يرى أنها تؤسس لعقيدة وثوقية تكرس انغلاق المجتمع ونفيه للحرية الفعلية. إلا أن خطورة الوضع الجديد هي أن الانغلاق المتزايد يتم من داخل معايير الشفافية والانفتاح التي توهم الإنسان بأنه لم يعد مقيدًا بضغوط معيقة لحريته، في الوقت الذي سمحت الأدوات التقنية الجديدة بمضاعفة أدوات الرقابة، والتحكم في الوعي والإرادة والسلوك الفردي والجمعي.
- انهيار قنوات ومؤسسات الاندماج الاجتماعي، وفي مقدمتها الدولة المدنية التي اتسمت بثلاثية الإرادة الذاتية الحرة، والمجتمع المدني المستقل والدولة الكلية الشاملة. وكان هيغل قد لاحظ أن هذه الثلاثية تضمن في آن واحد الحقوق والحريات الفردية التي هي “مبدأ عظمة العصور الحديثة” ومتطلبات الاعتراف التي تطرحها الحالة التعددية الاجتماعية وتفضي إليها فكرة الدولة المجسدة للكونية العمومية. ومع تحلل نموذج الدولة الوطنية، انتكست كل مستويات وأطر الاندماج الاجتماعي، في الوقت الذي فشلت كل مساعي بناء مواطنة إنسانية متلائمة مع واقع العولمة الجديدة التي شكلت حالة كوزموبوليتية لا تتوفر آليات تسييرها السياسي.
- انحسار فكرة “التقدم” التي شكلت منذ عصر التنوير المرجعية المعيارية للأفكار والنظم الليبرالية، وقد ارتبطت إبستمولوجيًا بما أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي “لويس ألتوسير” اكتشاف قارة التاريخ، أي التصور الغائي التتابعي للزمن من حيث هو قوة إيجابية فاعلة حاملة للتغيير الحتمي إلى الأفضل. فهذه الفكرة هي نقطة اعتماد السياسات التحررية الفردية والجماعية في المجتمعات الحديثة في مقابل سلطة الموازين التسلطية المعيقة للانعتاق. ما نلمسه راهنًا هو بروز نزعات ارتكاسية رافضة لمنطق التحول التاريخي والتقدم الإنساني باسم أيديولوجيات محافظة تكتسي أحيانًا طابعًا أصوليًا مغلقًا، يحارب أفكار العلم، والحرية والتنوير.
لقد تساءل مؤخرًا بعض الكتاب: ما هي الضمانات التي ما تزال بيدنا لكبح حركية الاستبداد من داخل المنظومة الديمقراطية التي قلصت في كثير من الساحات إلى المساطر الانتخابية الشكلية والإجرائية الصورية؟
في بعض البلدان لم يعد الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي ضمانة فاعلة للدفاع عن القيم الليبرالية بالنظر إلى انهيار النموذج الحزبي نفسه. وفي أغلب البلدان، لم تعد الصحافة قادرة على أداء دور صناعة الرأي العام ودفع النقاش العمومي حول القضايا المصيرية بعد أن استبدلت بالإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي التي تقوم على التجييش العاطفي والانطباعات السريعة. أما الآلية الانتخابية نفسها فلم تعد بمنأى عن التلاعب التقني، بما أفقدها نجاعتها الشرعية والقانونية.
خلاصة الأمر، أننا اليوم بحاجة إلى العودة إلى الدرس الأفلاطوني القديم الذي يتمثل في التنبيه إلى الارتباط العضوي بين العدالة السياسية والخطاب النظري القادر على ضبط المعنى والحقيقة، باعتبار أن السياسة هي قبل كل شيء إدارة للتعددية القائمة اجتماعيًا على أساس النقاش العقلي الرصين لا الخطابة العاطفية وصراع الآراء الجدلية الزائفة.