تحدثنا في الأسبوع الماضي عن النزعة الشعبوية الصاعدة في الغرب، مبينين أن الأمر لا يتعلق بمجرد تحول أيديولوجي في النسق السياسي القائم، بل بتغير نوعي في طبيعة الفعل السياسي ونمط إدارة المجال العمومي.
في كتابه المهم الصادر بعنوان “العقل الشعبوي”، يقول الفيلسوف الأرجنتيني الراحل “أرنستو لاكلو” إن الشعبوية هي في تعريفها الدقيق استراتيجية خطابية تقيم حدودًا سياسية تقسم المجتمع بين النخبة المهيمنة على السلطة، والجمهور الذي يوجد في القاع والهامش. وبهذا المعنى، لا يمكن اعتبار الشعبوية أيديولوجية جديدة، ولا نمطًا من النظام السياسي، بل هي طريقة للفعل السياسي يمكن أن تتخذ عدة صيغ أيديولوجية متضاربة بحسب اللحظات والمواقع والأطر المؤسسية.
وهكذا يمكن الحديث عن “اللحظة الشعبوية” عندما تتزعزع الهيمنة القائمة تحت ضغط التحولات السياسية والاقتصادية الاجتماعية فتغدو عاجزة عن تحقيق المطالب المطروحة عليها. في هذا الحالة، تعجز المؤسسات الموجودة عن الحصول على القبول الشعبي، وتتفكك الكتلة التاريخية التي تقوم عليها القاعدة الاجتماعية، ويصبح من الضروري عندئذ بناء ذاتية جماعية جديدة قادرة على إعادة ضبط النظام الاجتماعي العادل.
لا يتعلق الأمر إذن في مواجهة هذه التحولات بالعودة إلى اليمين المتطرف باسم الشعبوية كما هو الانطباع السائد راهنًا. بل إن الفيلسوفة البلجيكية شانتال موف (زوج المفكر الأرجنتيني الراحل لاكلو) ترى أن اللحظة الشعبوية الكبرى التي تمر بها حاليًا المجتمعات الغربية متولدة عن أزمة نموذج الهيمنة النيوليبرالية التي سيطرت تدريجيًا على أوروبا منذ ثمانينيات القرن الماضي. احتل هذا النموذج مكان دولة الرفاهية الديمقراطية الاجتماعية التي سادت في أوروبا الغربية بعد أزمة 1929 والحرب العالمية الثانية.
لقد عمل النموذج النيوليبرالي على فرض قانون السوق والخصخصة الجذرية والصرامة الضريبية، بما انعكس على قدرات الإدماج والرعاية التي شكلت شرعية الدولة القومية الحديثة. لم تكن الحالة النيوليبرالية إذن مجرد عقيدة اقتصادية، بل انطلقت من رؤية شاملة العالم تتأسس على فكرة “الفردية التملكية” التي تعني اختزال الإنسان في غائية الاستهلاك النفعي واستغلال الثروات الطبيعية.
ترى موف أن النموذج النيوليبرالي انكشفت هفواته مع أزمة 2008 التي أبرزت جوانب الهشاشة في الأسواق المالية والنظام المصرفي، وأدت إلى انسداد الوضع القائم مع غياب الحلول الناجعة له.
ومن هنا؛ ترى موف أن العالم الغربي دخل في لحظة شعبوية جديدة تطلق عليها “الوضعية ما بعد الديمقراطية” الناجمة عن انهيار ركني النموذج الديمقراطي التقليدي، وهما: المساواة والسيادة الشعبية. لقد قام النسق الديمقراطي الكلاسيكي على الجمع بين المقومات الليبرالية للفعل السياسي كما تتمثل في دولة القانون، والفصل بين السلطات والدفاع عن الحرية الفردية، والمقومات الديمقراطية للممارسة السياسية من مساواة شاملة وسيادة شعبية مطلقة. وليس بين التقليدين ارتباط عضوي، بل مجرد تزامن تاريخي ناتج عن نضال الليبراليين والديمقراطيين ضد الأنظمة التسلطية المستبدة. ولذا؛ اعتبر الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت أن التأليف العملي بين الليبرالية والديمقراطية في نظام سياسي واحد غير ممكن على طول الأمد.
في كتابها “المفارقة الديمقراطية”، أكدت شانتال موف أن الجمع بين التقليدين الليبرالي والديمقراطي أفضى إلى استقطاب حاد مستمر ناجم عن فكرة المجموعة السياسية المتحدة في تنوعها وتضارب مصالح أفرادها. فالمنطق الديمقراطي يقتضي وحدة الشعب المتساوي، وليس الكونية المجردة التي يقدمها الفكر الليبرالي. المشكل هنا هو أن النزوع الديمقراطي يتسلح بالأدوات الليبرالية من أجل سد كل أنواع التفاوت والإقصاء الناتجة حتمًا عن سلطة الشعب السيادية.
ولقد لعبت ثنائية اليمين واليسار مرحليًا دورها في ضبط هذا الاستقطاب الحاد بين القوى السياسية المتصارعة، بيد أن الحالة النيوليبرالية ألغت نهائيًا هذه الثنائية التي كانت تحكم النسق السياسي في المجتمعات الليبرالية الديمقراطية. ما يحدث راهنًا هو نضوب كل إمكانات الفعل الديمقراطي بانهيار فكرتي المساواة والسيادة الشعبية، بحيث لم يبق من المكسب الديمقراطي الكلاسيكي سوى الماكينة الانتخابية والدفاع عن حقوق الإنسان. لقد انهار التوازن الهش بين الحرية السياسية والفردية الليبرالية، وغدت السياسة مجرد إدارة للوضع القائم يتحكم فيها الخبراء والفنيون، ولم يعد لسلطة الشعب معنى حقيقي.
ومن هنا نفهم أن التجربة الشعبوية المتصاعدة التي تعرفها راهنًا البلدان الأوروبية تعكس هذا الوضع “ما بعد ديمقراطي” وفق صيغ متضاربة تتمحور حول صراع الشعبويات اليمينية والشعبويات اليسارية.
ما تتحدث عنه موف ظاهر اليوم في الأحداث السياسية الكبرى التي تشهدها الديمقراطيات الغربية. في الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا تشكل الحالة الترامبية مظهرًا لصعود الشعبوية اليمينية على أنقاض الأيديولوجيا الليبرالية المحافظة للحزب الجمهوري الأمريكي، في حين يتزايد نفوذ الشعبوية اليسارية في الحزب الديمقراطي المنافس على يد جناح بيرني ساندرس. وفي دول الاتحاد الأوروبي ثنائية مماثلة تظهر في صعود الأحزاب الشعبوية اليمينية مثل “التجمع القومي” في فرنسا، وحزب “فوكس” الإسباني، وحزب “الإخوة الإيطاليين” في إيطاليا وغيرها، في مقابل تنظيمات الشعبوية اليسارية مثل حزب “فرنسا الأبية”، و”بوديموس” الإسباني، و”سيريزا” اليوناني.
ما تلتقي فيه هذه الأحزاب على اختلافها في التوجه والمضامين الأيديولوجية هو الخروج من النسق الليبرالي التقليدي الذي يرتكز على أولوية الحرية الفردية على البناء الاجتماعي، ونظام الفصل بين السلطات، والتعددية الطبقية.. إلخ. تطمح كل هذه التنظيمات إلى بناء كتلة شعبية واحدة ومنسجمة، وتسعى إلى إقامة سلطة سياسية قوية، وتهدف إلى الرجوع إلى منطق السيادة القومية المطلقة.
هل تستطيع الأنظمة الشعبوية الجديدة توفير بدائل ناجعة عن التأليفية الليبرالية-الديمقراطية التي سمحت بعقود طويلة من الحرية السياسية والرفاهية الاجتماعية في البلدان الغربية؟
ليست الإجابة على هذا السؤال سهلة، إذ ما تزال الظاهرة الشعبوية في بدايتها، وإن كانت العديد من نماذجها العملية اليمينية واليسارية أخفقت في إحداث التغييرات المنشودة،كما هو الحال في بريطانيا، وبولندا واليونان.