أرنست لاكلو فيلسوف أرجنتيني بارز، توفي سنة 2014، أثر بقوة في اليسار الأوروبي الجديد خصوصًا في إسبانيا واليونان، كما كان له تأثير مماثل في الديمقراطيات الوليدة في أمريكا اللاتينية. لا يخفي لالكلو انتماءه للتقليد الماركسي، لكنه يصدر في الحقيقة عن مقاربة نظرية وسياسية جديدة تختلف نوعيًا عن الاتجاهات السائدة في الفكر الماركسي.
لقد اعتبر أن الماركسية التقليدية عانت من تناقض جوهري عميق بين اتجاه اقتصادوي يرجع السياسة إلى العلاقات الاجتماعية المتولدة عن أنماط وعلاقات الإنتاج، واتجاه يعود إلى مقاربة الهيمنة لدى غرامشي في ربطه السياسة بعملية الإبداع الأيديولوجي الكفيلة بالتحرر من عبء سيطرة الروابط الاجتماعية.
وهكذا ظل السؤال مطروحًا: هل تشكل الأيديولوجيا مجرد وعي زائف بالواقع ومن ثم فإن المطلوب هو تغيير الأرضية الاقتصادية الاجتماعية التي هي محور استراتيجية التغيير؟ أم أن الأيديولوجيا هي من وجه آخر القوة الدافعة للتحول من خلال العمل النظري والتعبير الفكري وبالتالي تكون قادرة على إحداث التغيير المنشود؟
إن لهذا الإشكال جوانبه المحورية في الحقل السياسي الأوروبي، حيث عجزت إجمالًا التشكيلات اليسارية عن تبوؤ موقع فاعل في مركز القرار والسلطة ضمن الإطار الليبرالي التعددي، رغم بعض المكاسب الظرفية التي حققتها الأحزاب اليسارية في إيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا واليونان.
لمعالجة ظاهرة انهيار التيارات اليسارية في الديمقراطيات الليبرالية الغربية، بلور لاكلو أطروحته في “الشعبوية اليسارية” في كتابه الأساسي “العقل الشعبوي” الصادر سنة 2005.
ومن الواضح هنا أن لاكلو يلاحظ بقوة تنامي التوجه الشعبوي في الديمقراطيات الليبرالية، إلى حد تقويض المنظومة الثنائية التي طبعت الحياة السياسية الغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (الديمقراطية المسيحية والاشتراكية الاجتماعية) لصالح ما يعتقد أنها تيارات يمينية قومية معادية لليبرالية وصلت إلى السلطة في بلدان عديدة منفردة أو في إطار تحالفات حزبية موسعة.
بالنسبة للاكلو، ليست الشعبوية في ذاتها مرتبطة باليمين القومي كما يعتقد عادة، بل هي في آن واحد تعبير عن أزمة مؤسسية ومعيارية معقدة تعاني منها الديمقراطيات الليبرالية (في موضوعات الشرعية، والفاعلية والثقة في النظم الإجرائية)، ونمط جديد من الممارسة السياسية فرضته أشكال التنظيم الاجتماعي والتعبير العمومي السائدة (شبكات التواصل الاجتماعي، التصدع الهوياتي المتزايد …).
ومن ثم، يتعين على أحزاب اليسار أن تتأقلم مع هذا المنعرج الشعبوي، إن هي أرادت الاستمرار والحضور الفاعل في الحقل السياسي، بدلًا من الإبقاء على القواعد المتجاوزة للعمل السياسي.
وهكذا، يرى لاكلو ضرورة مراجعة أطروحة الهيمنة المألوفة في التقليد الماركسي، بتوجيه النظر إلى جوانب الهيمنة الرمزية غير المرئية التي تواجهها الطبقات التابعة والمقصية (مثل الشغيلة، والمهاجرين وضحايا الاستعمار..). فالسلطة ليست ظاهرة اقتصادية أو سياسية محضة، بل تقوم أساسًا على محددات ثقافية واجتماعية هي التي تشكل هوية مجموعة بذاتها، وتحدد خياراتها النظرية والعملية وتؤسس شبكات العلاقات ما بين أفرادها.
إلا أن هذه الهيمنة الرمزية والاجتماعية ليست مطلقة ولا كلية، بل تسمح دومًا بالمراجعة والتغيير، نتيجة لكون المحددات المؤسسة للنظام الاجتماعية حركية وديناميكية، بما يفسح المجال أمام عملية الإبداع التغييري القادر على التأثير الناجع في التجارب المعيشية المشتركة.
ومن هنا ندرك قصور أي عمل سياسي ينحصر في الجوانب القانونية المؤسسية باعتبارها الأطر الوحيدة للفعل والممارسة، لكون الاعتبارات السياسية هي في عمقها رمزية ومعيارية وتتعلق بمسارات الهوية الاجتماعية الخاضعة للتحول والاختراع المستمر.
ولقد أخطأت الماركسية التقليدية في رهانها على الثورة التاريخية الكبرى الضامنة لقيم العدل والحرية، لكون هذه القيم المثالية تبقى أفقًا موجهًا للفعل السياسي وليست أهدافًا عملية واقعية. وهكذا تكون الشعبوية عودة حقيقية للسياسة بصفتها ممارسة رمزية وقيمية تتعلق بمجموعة منظمة متضامنة، وليست ممارسة قانونية وإجرائية تنفيذية.
صحيح أن الفكر السياسي حرص منذ أفلاطون على التمييز بين الجمهور من حيث هو كتلة مشتتة بلا صوت موحد ولا ممثل شرعي والجسم السياسي المنظم والشرعي (المجتمع العقلاني القادر على ضبط معيار جماعي للخير المشترك). لقد أسس هذا التمييز لنمط من الفصل الاجتماعي بين “الطبيعي” و”المختل” أخذ أشكالًا جديدة في الفكر الليبرالي الحديث حيث استمر الخوف من “فوضى الرعاع والعامة” (حالة الطبيعة حسب عبارة فلاسفة العقد الاجتماعي في عصر الأنوار الأوروبي).
ليس المطلوب هنا بالنسبة للاكلو رفض السياسة من حيث هي ممارسة إدماجية تصنع هوية مشتركة وتضمن حدًا مطلوبًا من الضبط الشرعي للسلم الأهلي، وإنما التأكيد على الطابع التعددي الجدلي للسياسة، بما ينجم عنه اعتبار الفضيلة الأساسية للديمقراطية هي الاعتراف بالتنوع، والاختلاف وتنظيم الفضاء التواصلي والبرهاني للنقاش العمومي بين أطراف متعارضة ومتصادمة.
ما يلاحظه لاكلو هو أن الديمقراطية الليبرالية طورت آليات وإجراءات لقمع التعددية الاجتماعية والرمزية الفاعلة، إلى حد اختفاء الاستقطاب اليميني اليساري الذي طبع الحياة السياسية في الغرب مدة ثلاثة قرون، ومن ثم فإن الموجة الشعبوية الحالية هي حالة تمرد واحتجاج عارم ضد تقويض السياسة نفسها بصفتها إطار انتظام الديمقراطبة التعددية الليبرالية.
في عالمنا العربي، تأخذ الموجة الشعبوية طابعين واضحين: النزعة الإسلاموية الاحتجاجية التي تنطلق من مركزية الدين في الهوية الجماعية بما يطرحه هذا التوظيف من إشكالات بإخراج الدين من الضمانة الاجماعية للهوية ليصبح عنصرًا من عناصر العمل السياسي التصادمي، والنزعات الإثنية والقبلية المحلية التي تشكل في نهاية المطاف خطرًا على استمرار الدول ووحدة نسيجها الداخلي.
وهكذا يظهر أن هذه النزعات الشعبوية تتعارض ضرورة مع روح ومعايير الديمقراطية الليبرالية، وإن كانت تستفيد من آلياتها الإجرائية التنظيمية والانتخابية. إنها ليست الشعبوية الإبداعية والتغييرية التي يتحدث عنها لاكلو من منطلق إصلاح اختلالات الديمقراطية الليبرالية مع الحفاظ على جوهرها، بل هي شعبوية مختلة وعقيمة في تعارض مع صلب وروح الديمقراطية كنظام اجتماعي يقوم على التنوع، والتعددية والحرية.