شهدت الضفة الغربية خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية أحداثًا جسامًا يصعب اعتبارها من قبيل الأحداث الروتينية التي اعتدنا عليها، من نظام إسرائيلي يحاول باستماتة تثبيت دعائمه على الأراضي الفلسطينية التي احتلها عام 1967، ومن مقاومة فلسطينية تصر على رفع تكلفة استمرار هذا الاحتلال إلى الحد الذي يجبر إسرائيل على الانسحاب من أراضيها المحتلة والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ومستقبله. ولأنها أحداث تبدو مختلفة نوعيًّا عن تلك التي اعتدنا على متابعتها حتى الآن، يبدو لي أنها تعكس دخول الصراع بين المشروع الصهيوني، من ناحية، وحركة التحرر الوطني الفلسطينية، من ناحية أخرى، مرحلة جديدة تختلف نوعيًّا عن كل المراحل التي مر بها هذا الصراع حتى الآن، وذلك لأسباب عدة يمكن إجمال أهمها على النحو التالي:
أولًا: الانهيار التام لأفق التسوية السياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فحين وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على التوقيع عام 1993على اتفاقية أوسلو، بدا واضحًا وقتها أن القيادة الفلسطينية، ومعها قطاع لا يستهان به من الشعب الفلسطيني ومن نخبته السياسية، تراهن على نجاح هذه الاتفاقية في التوصل إلى تسوية تنهي الصراع مع إسرائيل بالطرق السلمية، وذلك بعد مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات، ومن ثم تتيح للشعب الفلسطيني في نهاية هذه المرحلة الانتقالية إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على كامل أراضيه المحتلة عام 1967. صحيح أن قطاعًا آخر من هذه النخبة عارض اتفاقية أوسلو، بسبب ما انطوت عنه من تنازلات اعتبرها كارثية، وعبر عن قناعته باستحالة أن تفضي اتفاقية تنطوي على كل هذا الكم من الثغرات والعيوب إلى تسوية تحقق الحد الأدنى من المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني. ومع ذلك يستحيل الادعاء بأن المعارضة الفلسطينية هي التي تسببت في إفشال هذه الاتفاقية. فالوقائع على الأرض تشير بوضوح تام إلى أن المعارضة الفعالة لاتفاقية أوسلو جاءت من الجانب الإسرائيلي نفسه. ويكفي أن نتذكر هنا أن أحد غلاة المتطرفين الإسرائيليين أقدم في عام 1995 على اغتيال إسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي وقع على هذه الاتفاقية، أي بعد أقل من سنتين على إبرامها، وأن رفض أغلبية المجتمع الإسرائيلي لحل الدولتين ربما كان أحد الأسباب الرئيسية في انهيار اليسار الإسرائيلي المتهم بإبرام اتفاقية أوسلو، ما مهد الطريق أمام اليمين للهيمنة على الحياة السياسية الإسرائيلية طوال العقدين الأخيرين. بدليل أن بنيامين نتانياهو، زعيم حزب الليكود الإسرائيلي والمعروف بعدائه الشديد لاتفاقية أوسلو وحل الدولتين، استطاع أن يصبح رئيس وزراء إسرائيل لأكثر من ثلاثة عشر عامًا، وها هو يعود من جديد لقيادة أكثر الحكومات تطرفًا وعنصرية في تاريخ إسرائيل.
ثانيًا: صعود اليمين الديني على أنقاض اليسار الإسرائيلي المنهار. فقد كشفت الانتخابات البرلمانية الأخيرة عن حقيقة اضمحلال هذا اليسار وتضاؤل وزنه في الحياة السياسية الإسرائيلية، ما يعني أن الصراع داخل المجتمع السياسي الإسرائيلي بات يدور الآن بين يمين “علماني”، يتذرع بحجج الأمن التقليدية لرفض الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة في 67، ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وتبرير التوسع في بناء المستوطنات وفي تهويد القدس..إلخ، ويمين ديني لا يفرق بين أرض محتلة قبل عام 67 أو بعده، باعتبارها أرضًا “موعودة” ينبغي أن تقام عليها دولة “توراتية” لا يحق لأحد من “الأغيار” العيش فيها. بعبارة أخرى يمكن القول أن التيار السياسي الصاعد الآن في المجتمع الإسرائيلي يعتقد أنه لا يكفي أن تظل فلسطين التاريخية أرضًا خالصة لكل يهود العالم، وإنما ينبغي أيضًا أن تقام عليها دولة تدار وفقًا للتعاليم والإرشادات التلمودية. ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يشعر جميع الفلسطينيين الخاضعين حاليًّا للاحتلال الإسرائيلي، سواء أكانوا من سكان الضفة الغربية أو من سكان الأرض المحتلة قبل 48، بتهديد وجودي حقيقي، لأنهم باتوا مهددين بالطرد في أي وقت، وهو ما قد يفسر لماذا أصبح كل فلسطيني داخل الأرض المحتلة مهيًّأ ذهنيًّا ونفسيًّا لحمل السلاح، أيًّا كان شكله، للدفاع عن نفسه، وأهله، وأرضه وممتلكاته. وهذا عامل جديد لم يسبق له ممارسة مثل هذا التأثير من قبل.
ثالثًا: اتجاه الصراعات المحتدمة على الساحة الفلسطينية نحو الانحسار. فمن المعروف أن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت قد شهدت عبر مسيرتها الطويلة انقسامات عميقة وصلت ذروتها عقب الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2006 وفازت فيها حماس بأغلبية المقاعد، ما أدى إلى تعقيدات محلية وإقليمية أفضت إلى فصل القطاع عن الضفة، وبالتالي إلى وجود حكومتين فلسطينيتين تتصارعان على السلطة، إحداهما بقيادة حركة حماس التي أحكمت قبضتها على القطاع ورفعت شعار المقاومة المسلحة، والأخرى بقيادة السلطة التي أحكمت سيطرتها على الضفة وترفع شعار التسوية السلمية تحت راية أوسلو. ورغم تعدد الجهود التي بذلت لتحقيق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، إلا أن هذه الجهود لم تفلح حتى الآن في إزالة كافة العقبات التي تعترض طريق توحيد الصف الفلسطيني. ومع ذلك يمكن القول إن التطورات التي شهدتها الساحة الإسرائيلية مؤخرًا بدأت تقنع الشعب الفلسطيني بعبثية هذا الانقسام، ومن ثم بدأ يفقد ثقته تدريجيًّا في أي نهج فصائلي ويسعى لأخذ زمام الأمور بيديه مباشرة، وهو ما يفسر، من ناحية، ظهور حركات مقاومة فلسطينية مسلحة لا تنتمي لأي من الفصائل المتنافسة على الساحة، مثل حركة “عرين الأسود” على سبيل المثال، كما يفسر، من ناحية أخرى، مظاهر تململ واضح بدأت تظهر في صفوف حركة فتح، بسبب تمسك السلطة العنيد بالالتزامات الواقعة على عاتقها بموجب اتفاقية أوسلو، خاصة ما يتعلق منها باستمرار التعاون الأمني مع الحكومة الإسرائيلية. وفي تقديري أن هذه المتغيرات سوف تصب جميعها لصالح التيار المطالب بتأسيس حركة وطنية فلسطينية جديدة وموحدة تتولى قيادة النضال الفلسطيني في المرحلة الحاسمة القادمة.
رابعًا: انهيار النظام الإقليمي العربي الرسمي المندفع نحو تطبيع العلاقة مع إسرائيل. فقد شهدت فترة ولاية ترامب هجمة شرسة استهدفت تصفية القضية الفلسطينية، من خلال “صفقة القرن”، مصحوبة بضغوط أمريكية متصاعدة على العديد من الأنظمة العربية من أجل تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. ولأن عددًا لا يستهان به من هذه الأنظمة تجاوب مع هذه الضغوط، إما طوعًا أو قسرًا، ومن ثم أقدم بالفعل على إبرام اتفاقيات لتطبيع علاقاته مع إسرائيل، فقد أحس الشعب الفلسطيني بالخذلان وتخلي النظام الرسمي العربي عنه، بل وبطعنه في الظهر، ما زاد من تصميمه على الاعتماد على نفسه وأخذ زمام أموره بيده. ورغم تجاهل إدارة بايدن لصفقة القرن، إلا أنها استمرت في ممارسة الضغوط على الأنظمة العربية التي لم تطبع علاقتها بعد بالكامل مع إسرائيل، خاصة السعودية، لكي تقدم على هذه الخطوة. ومع ذلك يلاحظ أن الاندفاع العربي نحو التطبيع فقد زخمه في الآونة الأخيرة، وذلك تحت تأثير عاملين: الأول، اندلاع الحرب في أوكرانيا وظهور حالة استقطابية جديدة في النظام الدولي تسمح للدول العربية بهامش أكبر من الحركة، والثاني: تصاعد الاستفزازات الإسرائيلية، خاصة بعد تشكيل حكومة نتانياهو الحالية، والتي تضم بعض رموز التطرف العنصري في إسرائيل، من أمثال بن غفير وسموتريتش، ما يؤدي إلى وقوع الأنظمة العربية المطبعة مع إسرائيل في حرج بالغ إذا واصلت اندفاعها على هذا الطريق. وعلى أي حال فقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك، خاصة من خلال مونديال قطر 2022، أن الشعوب العربية ما تزال ملتفة حول القضية الفلسطينية ورافضة للتطبيع مع إسرائيل، وبالتالي فإن إصرار الأنظمة العربية على التطبيع مع إسرائيل سيؤدي حتمًا إلى اتساع الفجوة بينها وبين الشعوب العربية.
نخلص مما تقدم إلى نتيجتين رئيسيتين:
الأولى: تتعلق بالتحولات التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي حاليًا، والتي يتوقع أن تزيده تطرفًا وعنصرية بمرور الوقت، ما سينعكس حتمًا على تصرفات حكومته الحالية التي يتوقع أن تتخذ مواقف شديدة الراديكالية تجاه الفلسطينيين، من قبيل زيادة وتيرة ومعدلات الاستيطان والتهويد، خاصة في مدينة القدس، ومنح الجيش وقوات الأمن مزيدًا من الحرية في تعقب وتضييق الخناق على المقاومة الفلسطينية، بل وقد تذهب بعيدًا إلى حد افتعال مواقف وأحداث يمكن استغلالها للقيام بعمليات طرد وتهجير جماعي للفلسطينيين، ولتمكين غلاة اليهود المتدينين من اقتحام المسجد الأقصى والصلاة فيه، تمهيدًا لتقسيمه ثم تدميره وإقامة الهيكل مكانه.
الثانية: تتعلق بالتحولات التي يشهدها المجتمع الفلسطيني في الوقت نفسه، والتي يتوقع أن تزيده اقتناعًا يومًا بعد يوم بأن طريق التسوية وصل إلى نهايته، وأن المقاومة بكل أشكالها، وعلى رأسها المقاومة المسلحة، باتت هي الطريق الوحيد المفتوح أمامه نحو التحرر والاستقلال، وأن التعاون الأمني مع إسرائيل من جانب السلطة الفلسطينية وتطبيع العلاقات من جانب بعض الأنظمة العربية باتا يشكلان خيانة واضحة للقضية الفلسطينية وطعنة مسمومة في ظهر النضال الفلسطيني. ومن الطبيعي أن يفرز هذا المناخ جيلًا جديدًا من الشباب يختلف كلية عن الجيل الذي ترعرع في كنف أوسلو والذي حاولت الولايات المتحدة وإسرائيل إرضاعه كراهية المقاومة المسلحة، وهو جيل بات يؤمن ليس فقط بالكفاح المسلح وإنما بوحدة الساحات، ونبذ الخلافات الأيديولوجية والفصائلية والعمل على توجيه كل البنادق نحو صدر العدو الأوحد.
لكل ما تقدم، أعتقد أن المرحلة القادمة ستشهد صراعًا وجوديًّا بين مشروعين، الأول: صهيوني لا يمكن إلا أن يكون عنصريًّا واستبعاديًّا في جوهره، والآخر فلسطيني لا يمكن إلا أن يكون مقاومًا وتوحيديًّا في جوهره.