تسمى البابا الجديد بـ”ليون الرابع عشر” وأعلن أنه على مذهب القديس أوغسطين، أهم علماء اللاهوت المسيحي في القرن الرابع الميلادي وأكثر رجال الدين تأثيرًا في التقليد الكاثوليكي على مر العصور. ما لا يعرفه الكثيرون هو أن القديس أوغسطين من أصول أمازيغية جزائرية، ولد في مدينة طاغاست (سوق أهراس حاليًا) وتوفي في مدينة عنابة، وتلقى بعض تعليمه في قرطاج بتونس. لا يضاهي تأثير أوغسطين في المسيحية سوى توماس الأكويني الذي تلاه بعد ثمانية قرون. ومن المعروف أن أوغسطين هو الذي بلور في التقليد المسيحي نظريات المحبة والعدل والسياسة، وهو من أدخل الفلسفة اليونانية وخصوصًا المدرسة الأفلاطونية إلى اللاهوت المسيحي.
ليس أوغسطين هو الشخصية الشمال إفريقية الوحيدة التي أثرت في المسيحية الأوروبية، فمن بين الأسماء المشهورة أيضًا أرنوبيوس الأكبر المنحدر من شمال تونس (سيكا فينيريا التي هي مدينة الكاف حاليًا) وقد أثر بقوة في كتابات باسكال ومونتي ومدحه ديدرو وفولتير في القرن الثامن عشر. ومن هؤلاء اللاهوتيين الكبار أيضًا ترتليان، وهو عالم دين تونسي من القرن الثاني الميلادي وإليه ترجع العقيدة النسقية المسيحية، وقد احتفى به من بعد الإصلاحيون البروتستانت.
ما تبينه هذه المعطيات هو أهمية تأثير كنيسة شمال إفريقيا في نشر المسيحية في أوروبا وبلورة التقاليد العقدية والمؤسسية فيها، بما يتعارض مع الرؤية التي تعتبر الديانة المسيحية هوية خالصة للقارة العجوز.
في المشرق العربي، كانت المدرسة الفلسفية اليونانية حاضرة بقوة، خصوصًا بعد قرار إغلاق مدرسة أثينا في سنة 529م. وهكذا انتقلت النصوص الفلسفية اليونانية شرحًا وتدريسًا إلى أنطاكية، والرها والإسكندرية، وغيرها. ولم يكن قرار ترجمتها في عصر المأمون معزولًا عن هذا التداخل الثقافي الكثيف، الذي برز مبكرًا في الدراسات الكلامية والطبيعية، والكتابات الأخلاقية والأدبية.
ولقد بيّن الباحث الفرنسي-المصري مروان راشد أن الجيل الأول من المتكلمين العرب في القرن الثاني الهجري قد قرأوا تراث أفلاطون وأرسطو، وكتبوا ردودًا وافية على نظريات الطبيعة والوجود اليونانية، ولم يكن حضور الفلسفة اليونانية متأخرًا أو محصورًا في أعمال من يسمون بالفلاسفة (من الكندي إلى ابن رشد).
ولسنا بحاجة إلى التذكير بالتأثير الهائل للفلاسفة العرب والمسلمين في التراث اللاتيني الوسيط، وتكفي هنا الإشارة إلى ما لاحظه مؤرخ الفكر الكلاسيكي البارز “آلان دي لابيرا” من كون أوروبا الوسيطة تعلمت الفلسفة عن طريق نصوص ابن سينا قبل أن تكتشف أرسطو نفسه، الذي كان في البداية مقروءًا بعيون عربية (رشدية على الأخص).
لقد استمر هذا التداخل والتأثير في عصور الحداثة المتأخرة، وكما بيّن دي لابيرا ومروان راشد يمكن إرجاع مسالك التفكير الفلسفي الحديث في أوروبا إلى التقاليد التي بدأت في الفلسفة العربية الوسيطة مثل: أنطولوجيا الحال الذي بلور علم الكلام المعتزلي ونجد أصداءه في فلسفة ديكارت وسبينوزا، وثنائية الشيء والتجريد التي هي في أصلها إشكالية كلامية خالصة، والنظرة الرياضية للطبيعة كما تشكلت في المدرسة الذرية الإسلامية الوسيطة (نظرية الجوهر الفرد).
لا بد هنا من التأكيد على أن غرضنا يختلف عن المنهج التمجيدي الاحتفائي الذي يرجع كل مكاسب الغرب إلى الحضارة العربية الإسلامية، بل لا يتجاوز مرادنا تبيان زيف القطيعة التاريخية والفكرية بين أوروبا والعالم العربي الإسلامي.
خلال زيارتها الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية، رددت رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني القول إن مرتكزات الغرب الثابتة هي المسيحية، والتراث اليوناني والتقليد الروماني.
بيد أن ما فات الزعيمة الإيطالية هو أن هذه المكونات الثلاثة تجمع بقوة بين ضفتي المتوسط. ففضلًا عن الاختلاف في تصنيف اليونان القديمة من حيث انتماؤها شرقًا أو غربًا، فقد أثبتت الدراسات الموضوعية علاقاتها الوثيقة علميًا وفكريًا بالحضارات المصرية والمشرقية، وفي نصوص أب الفلاسفة أفلاطون، أدلة ملموسة على هذه التركة.
أما العالم الروماني الوسيط فيشمل كما هو معروف مناطق واسعة من المشرق والمغرب العربي، ولا يمكن اختزاله في أوروبا الغربية.
لقد أدرك هذه الحقيقة طه حسين في كتابه الشهير “مستقبل الثقافة في مصر” وإن كان اختزل هذه المعادلة في بلاده مصر التي اعتبر أنها أقرب لأوروبا من الشرق، والواقع أن العالم العربي بمفهومه الواسع شديد التداخل والترابط مع الحضارة الأوروبية في مجملها.
ما نخلص إليه هو ضرورة التخلي عن مصادرة الأصول المسيحية لأوروبا التي يفندها المؤرخ الكبير بول فاين، مبينًا أن كل القيم الأوروبية الراهنة لا علاقة لها بالتقاليد المسيحية الوسيطة، ومن ثم لا معنى للحديث اليوم عن الجذور المسيحية لأوروبا التي تغيرت نوعيًا ثقافتها بعد أربعة قرون من الإصلاح والحداثة والتنوير.
بنفس المنطق، نقول اليوم إن العالم العربي الذي دخل مسار الحداثة منذ قرنين أصبح بشكل من الأشكال أوروبيًا من حيث القيم والمعايير المجتمعية والخيارات الفكرية، حتى لو كان حافظ على عناصر ثابتة ومؤسسة من منظومته المعيارية والوجودية.
قبل سنوات، كتب الفيلسوف الإيراني الراحل داريوش شايغان كتابًا مثيرًا بعنوان “النور يأتي من الغرب”، ذهب فيه إلى أن المجتمعات الحديثة على اختلاف أنساقها الثقافية والفكرية والعقدية، اكتسبت بعض سمات الروح الغربية التي تلتبس بمسار التحديث الذي ما يزال في عمقه غربيًا.
لكن ما لا بد من تبيانه هو أن الحداثة وإن كانت في منطلقها غربية، إلا أنها تشكل ديناميكية إنسانية كونية من حيث التوجه والروافد وعمق التجربة، ولذا نظر إليها في الوعي الفلسفي والأدبي في عصور التنوير على أنها من جهة عملية قطيعة وتحول داخل السردية الغربية الطويلة، ومن جهة أخرى هي مظهرٌ لاكتشاف واستيعاب الآخر المغاير، بما انعكس بوضوح في صورة الشرقي الإيجابية في أدبيات التنوير الأوروبي، على عكس ما نرى في النماذج المحدودة التي استند إليها إدوارد سعيد في نقده الشهير للاستشراق.