كثيرًا ما يستشهد العرب بتجربة الاندماج الأوروبي الناجحة التي سمحت لقرابة ثلاثين دولة لها لغات مختلفة، وتاريخ متباين، وماضٍ متعادٍ ببناء وحدة صلبة، في حين عجز العرب عن تحقيق هذا المطلب رغم اشتراكهم في كل مقومات الوحدة من لغة، وثقافة، ومصالح اقتصادية واستراتيجية.
ولقد كان للتجربة الأوروبية تأثير حاسم على طبيعة المشروع القومي العربي الذي تطور منذ ثمانينيات القرن الماضي في اتجاه الفكرة الفيدرالية بدل الوحدة القسرية التي تقضي على الحدود والهويات الوطنية. ولقد نظم مركز دراسات الوحدة العربية في فاس 2001 ندوة كبرى حضرها عدد هام من المفكرين والسياسيين العرب حول “المشروع النهضوي الحضاري العربي الجديد” في توجهاته القومية العروبية المتأثرة بنموذج الوحدة الأوروبية.
ومع أن فكرة الاستمداد من التجربة الأوروبية سيطرت على اهتمام الفكر القومي العربي، إلا أنها لم تستند إلى مقاربة دقيقة ورصينة لهذه التجربة في مرتكزاتها الفكرية والتاريخية.
والواقع أن مفهوم “الهوية الأوروبية” طرح إشكالات نظرية وأيديولوجية معقدة بالنسبة لمفكري وفلاسفة القارة طيلة القرون الأربعة الماضية. فمع أن هذا المفهوم ظهر منذ عصر النهضة الذي شهد إعادة بناء الفكرة الحضارية الأوروبية على أساس الاكتشاف المتجدد للموروث اليوناني-الروماني، وبلغ أوجه في عصر الأنوار الذي عرف بدايات المشروع الاندماجي الأوروبي من منطلق القيم المدنية والقانونية الحديثة، إلا أنه ظل ملتبسًا وعصيًّا على الإنجاز والتحقيق بعد عقود مستمرة من حروب الأمم الأوروبية.
إن أوروبا التي أبدعت النموذج السياسي للدولة القومية بعد أن عرفت في السابق نموذجي المدينة والإمبراطورية، كانت ميدان صراع شرس ومدمر بين نزعات قومية عنيفة تقاسمت السيطرة على القارة وعلى العالم، بما تحيل إليه على الأخص الحروب النابوليونية التي مزقت أوروبا في بدايات القرن التاسع عشر.
والحال أن أول مشروع اندماجي أوروبي تبناه فلاسفة القارة في القرن الثامن عشر تمحور حول مقولة “السلم الأزلي بين الأمم”، على أساس القانون الكوسمبولوتي أي الإنساني الكوني. لعل أبرز هؤلاء الفلاسفة هو إمانويل كانط الذي بلور فكرة “الكونية الأوروبية”، وتصورها في شكل منظومة تضامنية تحكمها علاقات إنسانية سلمية، وفق مفهوم “القانون الكوسمبولوتي” الذي يعبر عن الروابط الإنسانية المحضة خارج التحديدات السيادية الضيقة.
ما يتضح من المشروع الكانطي الذي له أصداؤه الفلسفية الواسعة في أوروبا كلها (فولتير، وروسو ولايبنتز وغيرهم)، هو أن الفكرة الأوروبية نشأت كونية دون مضمون قومي، واتسمت بغائيتها القانونية السياسية التي هي ضمان السلم الدائم بين الأمم الأوروبية.
ففي حين احتفى فلاسفة القرن التاسع عشر بأوروبا العقول حسب عبارة نيتشه، إلا أنهم كانوا منخرطين في مشاريع قومية لتكريس الهويات الوطنية لبلدانهم ضمن المنظور الاندماجي بين الدولة والأمة الذي وقفنا عند بعض سماته في التجارب الإيطالية والألمانية.
في العصر الحاضر، قامت المحاولات الأولى لبناء الوحدة الأوروبية على أساس اقتصادي صرف، من خلال “الرابطة الأوروبية للفحم والصلب” التي تأسست عام 1951 بمبادرة من وزير الخارجية الفرنسي آنذاك روبير شومان بغرض منع أي حرب مستقبلية بين بلاده وألمانيا. ولقد اتجهت هذه الرابطة إلى إقامة نواة سوق اقتصادية أوروبية تضم بالإضافة إلى فرنسا وألمانيا الغربية، إيطاليا وهولندا ولوكسمبورغ وبلجيكا، أي عموم البلدان الغربية التي كانت تحكمها أنظمة ديمقراطية ليبرالية. وفي سنة 1957، تم تشكيل السوق الاقتصادية الأوروبية المشتركة من الدول ذاتها، وقد توسعت في ما بعد إلى بريطانيا، وأيرلندا والدنمارك، قبل أن تنضم لها دول أوروبا الجنوبية في السبعينيات بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية في إسبانيا، والبرتغال واليونان.
وبعد توقيع معاهدة لشبونة في ديسمبر/كانون الأول 2009، تشكل الاتحاد الأوروبي في صيغته الجديدة التي تضم 27 دولة من عموم القارة، إثر توحد ألمانيا واندماج عدد من بلدان أوروبا الشرقية في هذا التكتل الكبير الذي أضاف إلى مكسب السوق الموحدة العملة النقدية المشتركة والمجال الحدودي الموحد.
بيد أن بلدان الاتحاد الأوروبي تعرف منذ سنوات جدلًا داخليًّا متزايدًا حول مآلات هذا المشروع الاندماجي، ففي حين يطرح البعض خيار السياسة الخارجية والدفاعية المشتركة كأفق طبيعي للطموح الإقليمي ورهان قوة وتوازن على المستوى الاستراتيجي العالمي، يعلو صوت الحركات الشعبوية المدافعة عن الهويات الوطنية السيادية في مواجهة ما تعتبره تدميرًا لمرتكزات الأمة في سماتها القومية الذاتية، وتهديدًا للديمقراطية التي لا يمكن تطبيقها خارج الحيز الوطني المحدود.
لقد تناول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس هذه الإشكالية في كتابه “بناء أوروبا” مقترحًا الانتقال من فكرة المواطنة القومية الضيقة إلى ما أطلق عليه “المواطنة الدستورية” Constitutional Patriotism
التي لا تنفي معايير السيادة الوطنية، لكنها تتناسب مع واقع العالم الراهن الذي يتطلب شكلًا جديدًا من التنظيم السياسي هو المجال ما فوق القومي بمنظومته القانونية الخاصة به.
ما يسعى إليه هابرماس هو تجديد المشروع الكانطي في الكونية الأوروبية المستند إلى قانون إنساني عالمي، يكرس السلم والتضامن بين الأمم الأوروبية.
وخلاصة الأمر، أن النموذج الأوروبي لم يتمكن من الانبثاق والتحقق إلا بشرطين أساسيين هما : تجاوز الهويات الوطنية السيادية، وانتقال أنظمة الحكم إلى الديمقراطية الليبرالية.
هل يكون مشروع الاندماج العربي مرهونًا بهذين الشرطين المترابطين؟
كان كانط قد نبه إلى أن الأنظمة الديمقراطية الحرة تميل للسلم وترفض العدوان على الأنظمة التي تتشابه معها في السمات الدستورية والقانونية، وفي التجربة الأوروبية الحديثة دليل ساطع على هذه الحقيقة، رغم أن الأنظمة الديمقراطية لا تسلك الطريق نفسه إزاء الدول التي لا تتماثل معها في طريقة الحكم.
وما دام المشروع الأوروبي منذ نشأته موجهًّا بغاية السلم والأمن الإقليمي، فإنه من المؤكد أن تجربة الاندماج الأوروبي سمحت ببناء علاقات التضامن والتكامل بين بلدان القارة وجنّبتها ويلات الحروب والفتن، وهو ما نحتاجه بقوة في العالم العربي.
لقد انطلق المشروع الأوروبي من تصور بنائي ومستقبلي للهوية الأوروبية بدلًا من اعتبارها بديهية وحاضرة، في حين راهنت الأيديولوجيا القومية العربية على حتمية الوحدة على أساس حقائق التكامل الموضوعية دون احتساب الحركة الاستراتيجية السياسية التي هي الشرط الضروري لبناء حركية اندماجية ناجحة على غرار المسار الأوروبي.