الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

العقدة الديمقراطية ومأزق الفردية الليبرالية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

“العقدة الديمقراطية” كتاب جديد للفيلسوف وعالم السياسة الفرنسي مارسيل غوشيه، وفيه يعالج أزمة الديمقراطيات الليبرالية الغربية الحالية. في الكتاب، ينطلق غوشيه من مفارقة مفادها أن الديمقراطية انتصرت فكريًا على المستوى الكوني ولم تعد مبادؤها المؤسسة موضوع نقاش لكن يوجد إحساس عارم بأنها غدت صعبة التحقق، لا تثير إجماعًا في أي مكان حتى في قلاع الديمقراطية الليبرالية العتيدة والأصلية. إنها إذن أزمة داخل الديمقراطية، وليست أزمة الديمقراطية نفسها التي لم تعد مدار اعتراض ولا رفض.

لقد تحولت الديمقراطية من نظام مستقر للشرعية السياسية إلى نمط من الديمقراطية الاحتجاجية، مردها التنافر المتزايد بين القيم الفردية السائدة ودوائر التعاضد الاجتماعي. فالليبرالية التقليدية قامت تاريخيًا على مسار التحرر الفردي من قبضة وسلطة المجموع الكلي، بينما الاتجاه اليوم هو سيطرة الفردي على الهياكل المجتمعية التي هي مادة السياسة نفسها.

البنيات السياسية والقانونية والتاريخية للمجتمعات المعاصرة خضعت في السنوات الأخيرة لتحولات جوهرية تعود في عمقها لديناميكية الحداثة من حيث هي طريقة جديدة لبناء النظم المدنية والجماعية على الإرادة الفردية المستقلة. وما يتم الحديث عنه اليوم من تأثير العولمة الاقتصادية المتنامية يحجب هذا الواقع النوعي الذي لا يمكن إرجاعه لتحولات ظرفية محدودة.

لقد كانت المجتمعات الغربية الحديثة لمدة قرون قادرة على ضبط استقرارها السياسي والاجتماعي على أساس سلطة التقليد، بينما من شأن كل نظام قائم على محض الذاتية الفردية أن يولد إشكالات معقدة بشأن التماسك والانسجام الداخلي.

صحيح أن المجتمعات الغربية راهنت لمدة قرون على قدرة الاندماج الاقتصادي والمالي على تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، لكن ما غاب عن هذه الرؤية هو التضارب المتزايد بين الليبرالية الفردية المتحررة من سلطة الدولة (كما تبنتها الأيديولوجيات والحكومات النيوليبرالية التي سادت أجزاء واسعة من العالم الغربي منذ بداية الثمانينيات) والأرضية المجتمعية في هويتها ووعيها الجماعي. لا يتعلق الأمر فقط بالتصدع الاجتماعي الطبقي الذي لاحظه الفلاسفة وعلماء الاجتماع منذ القرن التاسع عشر، وهي الظاهرة التي تعبر عن نفسها اليوم بالتناقض المتفاقم بين المستفيدين من العولمة وضحاياها، وإنما الرهان الحقيقي هو التناقض الثقافي المعياري المتجذر الذي يحول دون الإدراك الواعي والواضح للمسألة الاجتماعية ذاتها في مقوماتها الدقيقة.

يلاحظ غوشيه أن المجتمعات الغربية المعاصرة فقدت تدريجيًا العلاقة بالتاريخ من حيث هو المنبع المعياري لقيم التغيير والبناء القانوني والاجتماعي، وأصبحت تعيش في الحاضر العدمي العقيم الذي لا يمكن أن تتولد عنه مشاريع مجتمعية حقيقية ولا أفكار للمستقبل.

ما حدث هو أزمة عميقة في مستوى فهم السياسة وإدراكها، بما ينعكس في المحدد الحداثي للممارسة السياسية المتمحورة حول مفهوم المواطنة من حيث هي إدارة جماعية للشأن العمومي. من جوانب هذه الأزمة ما يتعلق بالوعي بتراجع نموذج الدولة القومية التي هي المؤسسة الحداثية التي انتظمت حولها القيم المدنية والسياسية. لم تعد الأمة مرئية ولا واعية وإن كان الإجماع قائمًا حولها، ومن ثم ندرك تركز الصراع السياسي حول الشعارات والمثل القومية بما يظهر في التيارات الشعبوية التي تسيطر حاليًا على المشهد السياسي في جل الديمقراطيات الغربية.

الخطر في هذا التوجه هو انفصام القانون عن السياسة، بمعنى أن المنظومة القانونية غدت مهيمنة على جوانب مركزية من العمل السياسي الذي فقد استقلاليته وفاعليته. إن هذا التوجه له علاقة مباشرة بتنامي النزعة الفردية الذاتية التي تعبر عن نفسها بالأدوات القانونية، في الوقت الذي لا يمكن أن تنفصل السياسية منها عن مقتضيات النشاط العمومي.

المشكل القائم هنا حسب غوشيه هو أن القانون ليس بالضرورة مرادفًا للحرية والاستقلالية، بل هو في الآن نفسه إطار لضبط وتوطيد السلطة ونفي الإرادة الذاتية (ديكتاتورية القانون حسب عبارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين)، كما بينت تجارب تاريخية سابقة من آخرها الأنظمة الاستثنائية الاستبدادية التي حكمت أوروبا ما بين الحربين. ومن هنا ضرورة ربط القانون بالسياسة التي هي ممارسة سيادية سابقة لكل لحظة تشريع وتقنين وفق المقاربة الليبرالية الغربية الحديثة.

بيد أن الإشكال الأساسي الذي يقف عنده غوشيه هو أن واقع انغلاق وجمود المجتمعات الديمقراطية الليبرالية يصاحبه وهم القدرة على إعادة بناء وتغيير هذا الواقع دون سقف معياري مسبق ولا معوقات موضوعية. ومن هنا المأزق العميق الذي يحول دون عودة السياسة إلى مثالها التغييري الذي هو منطقها المرجعي العميق.

الخلاصة التي ينتهي إليها غوشيه هي ضرورة العودة للسياسة بصفتها نشاطًا إبداعيًا يتعلق بتسيير وإدارة المجال العمومي وضبط الروابط الإنسانية المشتركة. قد لا يكون من المتاح العودة للفهم الأرسطي القديم للسياسة من حيث هي تحقيق الفضيلة المدنية في نمط الاجتماع البشري وفق معايير “المدينة الفاضلة” (حسب عبارة الفارابي)، كما أن السياسة كتعويض للمعتقدات الدينية الجوهرية (الديانة المدنية بلغة جان جاك روسو) ليست سوى وهم مثالي. ما يفهمه غوشيه من السياسة هو أفق الإبداع الإنساني لروابط مجتمعية مستقرة تكفل في الواقع المعاصر قيم الحرية والمساواة التي هي مرتكزات الحداثة والتنوير.

من الصعب مخالفة غوشيه في مقاربته الدقيقة لأزمة الديمقراطية الليبرالية الغربية، لكن الحلول التي اقترحها تظل غائمة وغامضة، نتيجة لفشله الصريح في تحديد المثال السياسي المنشود، شأنه شأن جل المفكرين السياسيين الغربيين الذين تناولوا الإشكالية نفسها. لقد أقر غوشيه أن انحسار الماركسية كان في حقيقته نهاية حقبة كاملة من الفكر السياسي الثري الذي تناول مسألة السلطة في مجتمعات لم تعد تحكمها التقاليد الموروثة، ومن هنا فإن كانت الليبرالية نجحت عمليًا في معركة الصراع الأيديولوجي، إلا أنها لم تفض إلى صياغة نظرية وإجرائية ناجعة لمعضلات المجتمعات الحالية التي تحكمها نظم ديمقراطية متأزمة وهشة. وبعبارة أخرى، لئن انتصرت الديمقراطية الليبرالية فكريًا وإستراتيجيًا، إلا أنها لم تتمكن من تجديد نفسها وتجاوز ثغرات نموها.