إيمانويل والرشتاتين مؤرخ وعالم اجتماع أمريكي بارز، توفي مؤخرًا، أثر بقوة في أدبيات ما بعد الاستعمار، وقد عرف بأعماله الرائدة حول الحداثة في علاقتها بالرأسمالية والغرب، بما أهله لمكانة تضاهي مكانة عالم الاجتماع الألماني الأشهر ماكس فيبر في الحقبة المعاصرة.
في هذا السياق، يتساءل والرشتاتين لماذا لم تبرز الحداثة والحضارة الصناعية الرأسمالية خارج العالم الغربي بداية من القرن السادس عشر الميلادي؟
يستعرض والرشتاين النظريات التقليدية في تفسير الصعود الغربي في العصور الحديثة، متوقفًا عند ما سمي بأزمة الإقطاع الأوروبي وانبثاق الأشكال الجديدة من النمو الاقتصادي والتنظيم السياسي والاجتماعي التي أصبحت عالمية وكونية.
لقد ذهبت جل الدراسات السائدة إلى أن ما ميز الرأسمالية الحديثة عن الأنساق الاقتصادية التي سبقتها ليس فقط عقلية الربح والمنفعة أو تكثيف الرأسمال وإنما على الخصوص التراكم دون حدود أو قيود، والبحث الدائم عن النمو والتمدد على أوسع نطاق. ولقد تأقلمت هذه الروح مع القيم الكونية الحديثة التي تبلورت مع حركة الإصلاح الديني، والنهضة والتنوير.
بيد أن هذه الأطروحة التفسيرية تعاني من ثغرات كبرى في تحديدها لمسارات التحديث الرأسمالي الغربي، التي عادة ما تجمل في عناصر ثلاثة أساسية هي: الحرية الذاتية، وتوزيع الفائض وتراكم المعرفة.
بخصوص الحرية الذاتية، يظهر أن إزاحة العوائق القانونية والمؤسسية التي كانت تقيد إرادة الفرد وفعله لا ينتج عنها ضرورة دفع النشاط الإنتاجي، بل إن الأنساق السلطوية القهرية تبدو أقدر على أداء هذه المهمة، لكونها تتمتع بفاعلية أعلى تكفل لها مردودًا أوسع. ومن ثم فإن مبدأ الحرية الذاتية لا يفسر الصعود الرأسمالي، بل يحيل إلى اعتبارات نظرية واجتماعية لا تتقاطع في الجوهر مع بروز الماكينة الرأسمالية.
أما توزيع الفائض، فلا يتعلق بمطلب المساواة الاجتماعية الذي يتأرجح حوله الجدل القائم حول من يرون أن النظام الرأسمالي يكفل مستوى متقدمًا من العدل التوزيعي بالمقارنة مع الأنظمة الاقتصادية السابقة، ومن يرون أنه يقوم على الاستغلال الطبقي. ما غاب في هذا الجدل هو إدراك طبيعة الفائض الواسع المتولد عن حركية التراكم والسياسات المتباينة بشأن توزيع هذا الفائض، وهي ظاهرة لا علاقة لها ضرورة بالمساواة الاقتصادية والاجتماعية. ما لا بد من تبيينه هنا هو أن المنظومة الرأسمالية لا تتعلق باعتبارات السوق والربح وعقلانية التبادل المادي، بل تتطلب دومًا خيارات سياسية وإدارية ليست مستمدة من الحقل الاقتصادي نفسه.
وبخصوص التراكم المعرفي، كثيرًا ما يربط بين النظام الرأسمالي والثورة العلمية التقنية التي غيرت منهج التفكير الإنساني وكرست الرؤية الموضوعية التجريبية للأشياء، بما انعكس عمليًا في اعتبارات الحرية الفردية، وتسليع الثروة والعمل وبناء الدولة السيادية الحديثة. إلا أن حفظ الحرية الفردية ليس خاصًا بالمجتمعات الرأسمالية الحديثة، سواء أتعلق الأمر بالاعتراف المعياري به، أم بطبيعة ممارسته التي لا تختلف من نظام اجتماعي لآخر، ما دامت الحقوق القانونية والأخلاقية متشابهة، وأن حق تدخل السلطات العمومية لتقييد هذه الحرية الفردية مكفول في مختلف الأنظمة الاقتصادية قديمًا وحديثًا.
أما تسليع الموارد والعمل، فليس خاصًا بالمجتمع الرأسمالي الحديث، مع الاعتراف أن مدى تسليع الأرض والشغل أوسع فيه من أي نظام آخر، نتيجة تراجع الزراعة في تطور النظام الاقتصادي لأسباب تقنية وعلمية، وزيادة تنظيم سوق العمل حتى لو كان مسلك الوظيفة المؤجرة ليس خاصًا بالمجتمعات الرأسمالية الحالية ولا هو الإجراء التعويضي الأوحد الذي تعتمده.وإذا كانت التحليلات الرائجة تربط بين ظهور الدولة السيادية الحديثة والنظام الرأسمالي القائم على الحرية الفردية، إلا أن مفهوم السيادة في دلالته الإطلاقية يطرح مشكلات عويصة فلا توجد دولة تمارس سيادتها الفعلية بهذا المعنى، وإذا كان المقصود هو مجرد السلطة الإدارية المركزية الشاملة فلا فرق بين الدول الإمبراطورية السابقة والدولة الحديثة. ومن هنا ينتقد بشدة نموذج الشرعية العقلانية البيروقراطية الذي يطرحه ماكس فيبر في تحديده لطبيعة الدولة القومية الحديثة.
ما يخلص إليه والرشتاين هو أن الغرب الحديث أنشأ منذ خمسة قرون نظامًا اقتصاديًا غريبًا، ليس نتيجة تطور حتمي للبشرية ولا حالة كونية قاهرة وإن جرى تعميمه عالميًا. إنه أول نسق في التاريخ يكرس أولوية الاقتصاد على العلاقات الاجتماعية، بما يعني على عكس أطروحة فيبر أنه غير عقلاني ولا طبيعي.
لا شك في أن أطروحة والرشتاين التي لا نلمس لها أثرًا كبيرًا في الساحة العربية، تحملنا على مراجعة النظريات التي طرحت في السابق حول عوائق تحول المجتمع العربي الإسلامي الوسيط إلى الرأسمالية.
في هذا الباب، نشير إلى الكتاب الهام الذي أصدره سنة 1966 المستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسون بعنوان “الإسلام والرأسمالية”، وقد نشره في مرحلة طغت فيه الكتابات حول “اشتراكية الإسلام”. في هذا الكتاب الذي ما يزال هامًا ومفيدًا، يفند رودنسون الفكرة الشائعة حول نبذ الإسلام لعقلية الربح والتراكم المالي والتجاري من منظور تصوره للعدالة وتحريمه للجشع والاستغلال. فإذا كان التقليد الإسلامي وضع قيودًا صارمة ضد الربا والقمار في إطار أخلاقيته التجارية، إلا أنه حافظ بقوة على الملكية الفردية وأعلى من قيم الفاعلية الإنتاجية والكسب المادي، بما انعكس في حيوية المجتمع الإسلامي الوسيط الذي طور آليات التبادل والصناعات الحرفية ونظام العمل، في ما يمكن اعتباره أشكالًا جنينية للرأسمالية بدلالتها الحديثة تستند إلى قاعدة عقدية وأخلاقية قوية على عكس التصورات السائدة حول النزعة القدرية في الإسلام وغياب الحرية الذاتية فيه كما يزعم بعض المستشرقين.
ما يهمنا في الإشارة إلى أطروحة رودنسون هو تأكيد ما ذهب إليه والرشتاين من كون المحددات النظرية والمعيارية للرأسمالية ليست خاصة بها، بل هي موجودة في كل الأنساق الاجتماعية السابقة، ومن ثم خطأ النظرة التاريخانية المركزية للتجربة الصناعية الاقتصادية الأوروبية الحديثة.
أي بعبارة أخرى، لم تكن اللحظة الرأسمالية من حيث هي اكتشاف أوروبي معجزة خارقة ونقطة تحول عقلي وفكري، بل كانت نشازًا في مسار الحضارات الإنسانية حتى لو تحولت تحت ضغط الواقع إلى حالة كونية لا مجال للانفكاك عنها أو الخروج منها.