في بداية عصور الحداثة الأوروبية، شاع اعتقاد قوي بأن الغرب قد تخلص من اللاهوت السياسي، واستبدله بالنزعة الإنسانية الذاتية التي وصلت مداها في حقبة التنوير وما أفضت إليه من أفكار العقد الاجتماعي والدولة السيادية الليبرالية.
في هذه الفترة، كتب “ديكارت” تأملاته الميتافيزيقية مستبدلًا ما سمي باللاهوت الطبيعي بنظريته الميكانيكية التي أفرغت الطبيعة من العناصر الحيوية والصورية الموروثة عن فيزياء “أرسطو”، وكتب “سبينوزا” رسالته الشهيرة في اللاهوت والسياسة ساخرًا من المؤسسة الدينية ومن تأويلاتها للنصوص المقدسة، قبل أن يسعى “هوبز” إلى تحويل مشاعر الخوف والرجاء والتعظيم من الدين إلى الدولة.
ومع أن الفلاسفة المحدثين ذهبوا في مجملهم إلى تبني المقاربة الأخلاقية الضرورية للدين، أي الإيمان بما سماه “روسو” بالديانة المدنية من حيث هي منظومة الاعتقاد الدنيا التي لا محيد عنها من أجل تماسك المجتمع وتشكل الإرادة المشتركة، إلا أنهم أسسوا شرعية الدولة على محض التوافق والإجماع والتدبير العقلاني للشأن العمومي.
لقد كانت نتيجة هذه التحولات نوعية على نمط الوعي الديني، الذي تخلص حسب القراءة السائدة من اللاهوت السياسي، واستبدله بنزعة أخلاقية ذاتية لا تتدخل في طبيعة التوافقات القيمية الجماعية التي يقوم عليها النسق السياسي الاجتماعي.
لقد انفرد الفيلسوف القانوني الألماني “كارل شميت” بنظريته المعروفة حول العلمنة من حيث هي ترجمة قانونية إجرائية للمعتقدات اللاهوتية نفسها، بنقلها من الحقل العقدي الديني إلى المجال السياسي القانوني.
إلا أن هذه النظرية لم تستطع أن تواجه أطروحة “ماكس فيبر” الشهيرة حول الشرعية السياسية الحديثة بما هي مؤسسة على العقلنة، في مقابل أنماط الشرعية السابقة القائمة على التقليد أو الإشعاع الكارزمائي.
بيد أن السنوات الأخيرة، شهدت عودة غير متوقعة لأطروحة “كارل شميت” في أعمال الفيلسوف الإيطالي “جورجيو أغامبن” الذي خصص عدة كتابات نظرية موثقة بالبحث القانوني واللاهوتي الدقيق، ذهب فيها إلى القول إن اللاهوت السياسي هو الجذر العميق لكل الأفكار والتجارب السياسية الحديثة.
لقد أهتم “أغامبن” بثلاث ظواهر محورية كبرى في الممارسة السياسية الحديثة هي: السلطة السيادية، ومقولة المحكومية في أبعادها التسييرية والإدارية، والبنية القانونية الوضعية للدولة المعاصرة.
بخصوص السلطة السيادية، طور “أغامبن” نظرية “شميت” في سلطة الاستثناء، مبينًا أن معنى السيادة الذي هو التمتع بأهلية الفعل المطلق غير المقيد قبليًا يصدر عن مسبقات لاهوتية ترتبط بعقيدة الإنشاء من عدم. ففي حين تزعم النظرية السياسية الحديثة أن مصدر الشرعية الوحيد في الدولة هو الأساس القانوني، إلا أنها تسكت عن إشكالية السلطة التكوينية الأصلية للنظام المعياري العمومي مع أنها ترفض إرجاعه إلى خلفيات طبيعية أو شرعية مستقلة.
في ملاحظة مبنية على نظرية الفيلسوف الفرنسي “ميشال فوكو” في “السلطة الحيوية”، يرى “أغامبن” أن الحداثة السياسية ألغت التمييز اليوناني القديم بين الحياة البيولوجية “العارية” والحياة السياسية المدنية، وحولت السلطة إلى تحكم مباشر في الأجسام والرغبات والأهواء. وهكذا يظهر أن الدولة السيادية تقوم من جهة على الاستثناء ومن جهة أخرى على السلطة الحيوية المباشرة.
أما فكرة المحكومية التي تعني تصور السياسة في دلالة التدبير بالمعنى الاقتصادي الإداري، فيرى “أغامبن” أن لها جذورًا لاهوتية بعيدة، رغم ما يشاع من عمق الفصل بين الدين والسياسة في التجربة المسيحية الغربية.
صحيح أن التقاليد اللاهوتية تشكلت بمنأى عن الحياة السياسية، إلا أن ما جرى في العصور الحديثة هو نقل تقنيات توجيه الوعي والضمير (كما في ممارسات الاعتراف والخطيئة والغفران..) من المجال الديني إلى الحقل السياسي .كما أن التصور التسييري للسياسة يتناسب مع بنية عقدية تفصل بين الإله في حاكميته المطلقة ونظام ضبط الطبيعة القائم على التفويض، بحيث يكون الإله حاكمًا دون أن يمارس عمليًا سلطته المباشرة على الطبيعة (ذلك هو المعنى العميق لعقيدة التثليث كما تصورها الآباء في الكنيسة الغربية).
عندما تصبح السلطة مجرد تسيير اقتصادي لأوضاع المجموعة المنظمة، تكون السياسة بحاجة إلى طقوس المجد والتعظيم والولاء، بما نراه بجلاء في الطقوس السياسية المعاصرة.
بخصوص البنية القانونية للدولة المعاصرة، يبين “أغامبن” أن الفكر الغربي، قام منذ أصوله اللاهوتية الوسيطة، على التمييز بين أحكام الوجود الموضوعية الوصفية وأحكام القيمية المعيارية التي تتعلق بالسلوك والأمر، لكنه خلص تدريجيًا إلى احتواء القيم والمعايير في أحكام الطبيعة والوجود بحيث تحول القانون إلى علم موضوعي مستقل عن مرجعيته الأمرية. إن هذه الظاهرة تكشف بجلاء عن مفارقة الدولة الحديثة، من حيث كونها توهمت القطيعة مع اللاهوت لكنها استوعبته في نظامها التدبيري من خلال منح المدونة القانونية قوة الحقيقة الموضوعية المقدسة رغم أنها في منطلقها تشريعات تحكمية مفروضة.
هل انفصل اللاهوت في الغرب فعلًا عن السياسة؟
لا شك في أن الدولة الغربية الحديثة قامت على الفصل بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، وقننت في هياكلها الدستورية التمييز بين الإيمان من حيث هو معتقد شخصي والمجال العمومي المشترك، لكن ما يبينه “كارل شميت” و”جورجيو أغامبن” هو أن هذا الفصل لا يصل إلى البنيات العميقة والجذور البعيدة.
في السنوات الأخيرة، وبعد انحسار الأيديولوجيات التاريخانية والوضعية، عادت بقوة التيارات الدينية المحافظة والأصولية، سواء في ثوب قومي يرتبط بمسألة الهوية الوطنية والحضارية، أو كرد فعل على سياسات اليسار التي ألغت الحواجز الأخيرة دون تفكك المجتمعات.
يعزو الكثيرون للأديب المعروف “أندريه مالرو” القول إن القرن العشرين كان ضد الدين، في حين أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الدين أو لا يكون. إلا أن ما يؤكده “أغامبن” هو أن الحداثة كانت في منطقها العميق قلبًا للمفاهيم الدينية عبر استيعابها واستبطانها. الأمر هنا يتعلق بالمتخيل والمحددات اللاواعية، رغم ما يظهر من شعارات تنويرية وسياسات علمانية.