نشهد راهنًا مع سياسات الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب تحولًا لافتًا من خط الليبرالية التقليدية القائمة على مبدأ حرية السوق والتبادل التجاري المفتوح، إلى سياسات تجمع بين الحماية الاقتصادية على المستوى الوطني مع تفكيك الهياكل المركزية والإدارية للدولة، وتفريغ السلطات العمومية من جل صلاحياتها ومهماتها.
ما يجهله الكثيرون هو أن هذا المنحى على غرابته الظاهرة، يعكس توجهًا فلسفيًا وأيديولوجيًا معروفًا في الولايات المتحدة الأمريكية هو الاتجاه الليبرالي الراديكالي (Ultraliberalism) الذي قد يطلق عليه أيضًا لفظ “الليبرتارية” (Libertarianism).
في كتابه “الأسس الفلسفية لليبرالية”، يبين الاقتصادي والفيلسوف التشيلي فرانسيسكو فيرغارا ( توفي في 2023) أن التيار الليبرالي الراديكالي الذي يمثله مفكرون من أشهرهم الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان والفيلسوف النمساوي فردريك هايك، يختلف في أفكاره وتوجهاته عن الفكر الليبرالي الكلاسيكي نوعيًا.
فبالنسبة لهذا التيار الكلاسيكي، ينظر إلى القوانين والمؤسسات من حيث أهدافها الأخلاقية النهائية، سواء من منظور الرفاهية والسعادة لدى الاتجاه النفعي، أو من حيث قيم العدالة والحق الطبيعي بالنسبة للاتجاه الحقوقي.
أما الليبراليون الراديكاليون، فلا نجد لديهم معيارًا أخلاقيًا واحدًا، بل يعتمدون طريقة انتقائية بحسب الحالات المطروحة، فيتأرجحون ما بين المنظور النفعي والحقوقي والاعتبارات الواقعية البراغماتية، بحيث لا يمكن الحديث عن فكر متناسق نظريًا ومنهجيًا.
بيد أن الفكرة الأساسية التي يتفق حولها كل الليبراليين الراديكاليين هي مقولة الحرية باعتبارها المعيار الذي تقاس به طبيعة المؤسسات والقوانين العمومية. الحرية هي المقصودة لذاتها وليس السعادة العامة كما كان يقول آدم سميث ولا العدالة كما يذهب جل الليبراليين الكلاسيكيين. وهكذا، يترتب على هذا التصور للحرية، إلغاء كل القيود والضوابط المنظمة للحركية الاجتماعية، وفي مقدمتها المحددات القانونية والسلط المستقلة والنظم الضامنة للتوازن في ميدان الحريات الخاصة. إن مبدأ “تكثيف الحرية” خارج أي سقف معياري، يمكن أن يفضي إلى معضلات عملية كثيرة ناتجة عن التخلي عن أهداف العدالة والدمج الاجتماعي التي هي حصيلة مراجعات طويلة قام بها الفكر الليبرالي الكلاسيكي خلال القرن الاخير. ومن هنا ندرك سياسة تقويض كل المكاسب الاجتماعية والحقوقية التي غنمتها قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي في السنوات الماضية، باعتبارها داخلة في نطاق مفهوم “التمييز الإيجابي” الذي تحاربه علنًا الإدارة الأمريكية الجديدة. ليس من شأن الدولة وفق خطاب التيار الليبرالي الراديكالي مساعدة المعوزين أو تصحيح اختلالات الرأسمالية الاقتصادية، ولا حتى تمويل برامج التعليم والصحة، بل تلك مسؤولية السوق التنافسية الضامنة لانسجام المصالح الفردية الحرة، وعندما تتولى الدولة هذه المهمات الاجتماعية تفشل في القيام بها، فضلًا عن كونها تؤدي صلاحيات غير مبررة ولا مشروعة.
عرفت أفكار ميلتون فريدمان في الآونة الأخيرة رواجًا واسعًا، فتبناها بصراحة الرئيس الأرجنتيني خافيير مالي ونجم الاقتصاديات والتقنيات الجديدة في الولايات المتحدة إيلون ماسك بل ونائب الرئيس جي دي فانس، وعاد كتاب فريدمان الأساسي “الرأسمالية والحرية” إلى الواجهة.
في هذا الكتاب الذي يرجع إليه كل الليبراليين الراديكاليين، يذهب فريدمان بوضوح إلى أن إناطة المسؤولية الاجتماعية بالدولة وهم خطير، يتعارض مع فكرة السوق الحرة القائمة على البحث عن الربح والمنفعة. ومن هنا يعتبر أن الحرية السياسية يجب أن تكون متولدة عن الحرية الاقتصادية، بمعنى أن النظام الرأسمالي شرط ضروري لقيام حكم ديمقراطي مفتوح وضمانة كافية لكبح الغبن والإقصاء. إن مهمة الدولة من هذا المنظور محصورة في فرض احترام الحرية الفردية والتنافس الشفاف المشروع، ولا تدخل أبدًا في السياسات الاجتماعية التي تؤدي حسب رأيه إلى نوع من العبودية الجديدة هي “الانقياد الإلزامي للدولة”.
ولا يخفي فريدمان في هذا الكتاب نقده الجذري لمؤسسات برتون وودز التي تشرف على الاقتصاد العالمي، مفضلًا بدلًا منها الشراكات المرنة وفق المصالح الوطنية للدول.
من الواضح أن الكثير من الإجراءات التي اعتمدها الرئيس ترامب مؤخرًا تنسجم مع مشروع فريدمان، خصوصًا ما يتعلق بتقليص الوظائف الاجتماعية للدولة وتفكيك جهازها الإداري والبيروقراطي، وتهديد حركية التجارة الدولة المفتوحة، حتى لو كانت السياسة الحمائية القوية التي اعتمدها قد لا تتناسب مع جوهر رؤية فريدمان.
ما يتعين التنبيه إليه هو أن التيار الليبرالي الراديكالي لا تهمه الحريات السياسية ودولة القانون أي القيم الليبرالية الكلاسيكية، بما يفسر أن فريدمان نفسه كان مستشارًا اقتصاديًا للديكتاتور التشيلي المعروف أوغستو بينوشيه. وقد عبر نائب الرئيس الأمريكي فانس في مؤتمر ميونيخ عن نفس هذا التصور للحرية المنفصم عن المعايير الليبرالية، ضمن تشكل ما أطلق عليه البعض “الليبرالية التسلطية” التي هي الوجه الآخر للديمقراطية غير الليبرالية التي يتبناها رئيس الحكومة الهنغارية فيكتور أوربان.
لا توجد علاقة مباشرة بين الليبرالية الراديكالية والنزعة المحافظة المتطرفة، رغم تعايشهما راهنًا في دوائر القرار العليا في الولايات المتحدة وفي العديد من البلدان الغربية. قد يتناغم الاتجاهان في الوسيلة السياسية التي هي النزعة الشعبوية التي تستهدف النخب البيروقراطية والطبقات المثقفة والسياسيين المحترفين، كما تستهدف نظام الفصل بين السلطات والمكاسب الاجتماعية والحقوقية للديمقراطيات الليبرالية.
النزعة الليبرالية الراديكالية في منطقها العميق ذات توجه فردي يحكمه منطق المصلحة والمنفعة، بينما الاتجاهات المحافظة المتطرفة تركز على اعتبارات الهوية القومية والسيادة الوطنية و”النقاء العرقي” في مواجهة حركية الهجرة الخارجية ومخاطر التعدد الثقافي والديني.
من الواضح أن ما يجمع بين التيارين هو رفض الليبرالية الكلاسيكية في استنادها لمنظومة حقوق الإنسان والحريات العامة وتوازن السلط المؤسسية، واستبدال هذه المنظومة بتصور سيادي صوري للديمقراطية من حيث هي التعبير عن روح الأمة التي كثيرًا ما تتجسد في زعامة سياسية فردية قوية ومؤثرة.
في البرلمان الأوروبي، تتمايز المجموعتان، وإن كانتا حليفتين في الموازين الانتخابية في ساحات كثيرة، بينما تشكلان قوة متداخلة ومتضامنة في الحزب الجمهوري الأمريكي الذي أصبح القاعدة السياسية الصلبة للظاهرة الترامبية التي لا يبدو أنها في طور التراجع والانتكاسة، كما يظن الكثيرون.