الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الليبرالية والديمقراطية: التحديات الراهنة
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

يذهب الكثيرون إلى القول بترادف الليبرالية والديمقراطية، على الرغم من أن العبارتين تحيلان إلى خلفيات دلالية،  وسياقات تاريخية ومجتمعية متمايزة ومختلفة.
في كتابها “نهاية الحريات: أو كيف نعيد تأسيس الحرية”، تبين الفليلسوفة مونيك كانتو سبربر أن أوروبا تشهد حاليًا تصاعد الموجات التسلطية المناهضة للحريات السياسية من نزعات شعبوية، وقيصرية وديمقراطيات غير ليبرالية.

لهذه الظاهرة علاقة بالثورة التقنية الراهنة التي كرست ما أطلق عليه البعض “رأسمالية الرقابة” التي تتمثل في الضبط،  والمتابعة والملاحقة الدائمة عن طريق أجهزة وآليات الحراسة والإنصات، إلى حد تقليص مساحات النقاش والحوار العمومي التي هي أساس المنظومة الليبرالية.

وفق استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجريت في عدد من الدول الغربية، اعتبرت أغلبية واسعة أنها لم تعد تشعر بكونها حرة، وتعيش في نظام يكفل الحريات الأساسية، على الرغم من أن الدساتير والقوانين تتأسس على الحقوق والحريات.
ما تعنيه الليبرالية في ثوابتها الكبرى هو الثقة في الاستقلال الفردي، واعتماد تعددية المصالح والآراء والحد من قبضة السلطة في المجال العمومي.

ومن هنا، لا يمكن اختزال الليبرالية في جانبها الاقتصادي الذي لا مناص منه في أي مجتمع حر، وإن كان غير كافٍ في ذاته، بل قد يكون عقبة لممارسة أصناف أخرى من الحرية ضرورية في المجتمعات الحرة.
تلاحظ مونيك كانتو سبربر أن جل الأفكار السياسية والاجتماعية التي تقوم عليها الليبرالية تعود إلى سياق القرنين السابع عشر والثامن عشر، مثل فكرة توازن السُلط واستقلالها عن بعضها بعض، وحق مقاومة تجاوزات السلطة العمومية، والانتظام الذاتي للسوق، وفكرة مشاركة المواطنين في القرار السياسي والمساواة الفعلية بين المواطنين في حقوق المشاركة السياسية.

هل ما تزال هذه الأفكار صالحة لوضع المجتمعات الليبرالية الغربية في الوقت الراهن؟

ترى مونيك كانتو سبربر أن الحريات تراجعت نوعيًا في المجتمعات الغربية في السنوات الأخيرة، بما نلمسه في قوانين وإجراءات الرقابة الشاملة التي انتقلت من النطاق الضيق لعالم الجريمة إلى المجال العمومي الواسع، منتهكة حرمة الحياة الخصوصية والحريات الشخصية. ولا شك في أن شبكات التواصل الاجتماعي قد عقدت من هذه الوضعية، موفرة لأجهزة الرقابة أدوات سهلة وناجعة وغير قهرية. كما أن الثقافة الاستهلاكية السائدة غدت تتدخل في أدق ميولنا ونوازعنا الذاتية، والأدهى من ذلك أنها قوضت مفهوم الخيرات العمومية من تعليم وصحة وحركة تنقل، وهي في حقيقتها المقومات الموضوعية للحرية العملية. وحتى الثورة الجينية البيولوجية الحالية التي راهن عليها البعض لمضاعفة قوة الإنسان وفاعليته تحولت إلى نوع من العبودية الجديدة التي تلغي حرية الإنسان من خلال التلاعب بموروثه الجيني وملكاته الإدراكية والذهنية.

وفي نظام الحياة السياسية، نلاحظ أن المؤسسات الحزبية العتيدة تنهار، والعزوف عن العملية الانتخابية على أشده، بحيث لم تعد للديمقراطية التمثيلية دلالة حقيقية.

لقد حصدت ثمار هذه الأزمة الحركات الشعبوية التي اجتاحت أغلب الديمقراطيات الغربية وهي في جوهرها معادية للقيم والمعايير الليبرالية، لا ترى في الديمقراطية سوى جانبها المسطري الإجرائي.
إنها مظهر من مظاهر أزمة الديمقراطية الليبرالية وليست حلًا لها. صحيح أن تراجع الحريات السياسية له علاقة مباشرة بانحسار زخم ديناميكية النضال الشعبي ضد الاستبداد والأحكام المطلقة وبصعود البورجوازيات الجديدة في العصور الحديثة. كما أن تجارب الانتقال السياسي المتعثرة في عدة بلدان من أوروبا الشرقية في مقدمتها روسيا، أضعفت الحماس للديمقراطية التعددية التي اعتبرت مصدر فوضى وعدم استقرار اجتماعي. إلا أن هذا العامل لا يمكنه أن يلغي المضمون القيمي والفلسفي الثري للفكرة الليبرالية.

ما يتعين التنبيه إليه هنا في ما وراء ملاحظات مونيك كانتو سبيربر الصائبة حول أزمة الليبرالية، هو أن الليبرالية ليست شكلًا من النظام السياسي يقتضي بالضرورة الممارسة الديمقراطية التعددية، كما أن الديمقراطية من حيث هي تعبير عن الإرادة الجماعية المشتركة من خلال آليات التمثيل والانتخاب لا تفترض حتمًا المعايير الليبرالية.

ومن هنا نفهم أن الأفكار الليبرالية ظهرت قبل قيام الأحكام الديمقراطية، في شكل مقاربات فلسفية حول الذاتية والحرية والفصل بين السلطات، بل إن البعض تحدث عن النشأة التسلطية لليبرالية لدى هوبز في تصوره للسيادة المطلقة للدولة الشاملة. ولم يكن روسو يقول بالمماهاة بين مبدأ الإرادة المشتركة والحرية الذاتية، بل يرى أن الحرية الحقيقية لا تكون إلا جماعية، وتكمن في الصيغة القانونية الكونية لا في ميول الأفراد ونوازعهم الضيقة.

الأمر هنا يتعلق بالتنازع النظري والمعياري بين مبدأ استقلالية الذات وأولوية الإرادة الفردية الذي هو الإطار المرجعي للفكرة الليبرالية، ومبدأ الإرادة الشعبية الجماعية الذي هو محور الأطروحة الديمقراطية.

وما نشهده راهنًا هو انهيار كل الصياغات التأليفية بين المبدئين، بما يتمثل في ميل جانب واسع من الشعوب الغربية إلى الحلول غير الليبرالية باسم السيادة المطلقة للأمة، في حين ينظر أحيانًا إلى القيم الليبرالية بصفتها قيودًا غير شرعية على إرادة الشعب وخياراته.

بطبيعة الأمر، ليس هذا الجدل بالجديد، فمن المعروف أن الأنظمة الاستبدادية التسلطية في مرحلة ما بعد الحربين مثل النازية والفاشية صعدت إلى السلطة عن طريق الاقتراع الشعبي، كما أن المذهب الاشتراكي الذي حكم نصف العالم لعقود طويلة (وما زال يحكم في الصين، وكوريا الشمالية وكوبا) تبنى مفهومًا مركزيًا للديمقراطية من دون وسائط انتخابية من منظور إطلاقي راديكالي للعدالة الاجتماعية يتعارض كليًا مع المنظور الليبرالي.

في بلدان كثيرة من الجنوب -كما هو حال عالمنا العربي- تشكل التيارات الليبرالية قوى هامشية في مقابل الحركات السياسية الأخرى التي تستفيد من كل ديناميكية انتخابية مفتوحة.

خلاصة الأمر، أننا نعيش حاليًا انفجار الصدام بين الليبرالية والديمقراطية، على أصعد مختلفة وفي كل الساحات الدولية، بخلفيات وأسباب متغايرة متعددة. ليس من همنا دخول النقاش النظري حول التهيئة الليبرالية الضرورية للمسار الديمقراطي (وفق التجربة الغربية الناجحة سابقًا)، وإنما حسبنا الإشارة إلى أن هذا التحول الكبير الذي نعرفه راهنًا يحملنا على مراجعة وإعادة تصور مطالبنا النهضوية التي تتركز في مطلبي الحرية والعدالة، وهما جوهر الديمقراطية والليبرالية.