الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

المجتمع المدني: المفهوم والسياق
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

لم يدخل مفهوم المجتمع المدني السياق الفكري العربي قبل عقد الثمانينيات، رغم أنه مصطلح عريق في الدراسات الفلسفية والاجتماعية.

لقد برز هذا المفهوم في خلفية سمتها البارزة طغيان المطلب الديمقراطي في البلدان العربية، وقصد به في البداية فرض التعددية السياسية والحزبية، أي كسر طوق الاستبداد من خلال إيجاد قوى مؤسسية ضامنة لتوازنات السلطة وغير خاضعة للحكم السياسي التنفيذي.

وبطبيعة الأمر، يختلف هذا المفهوم عن دلالة الفكرة في السياق الغربي، حيث انتقل المصطلح من معناه الأصلي في التقليد اليوناني والروماني (الوحدة السياسية للمدينة) لكي يحيل في الفلسفة الحديثة إلى مجال الحريات الفردية السابق على الدولة والمكرّس لإرادة الذوات المستقلة المؤهلة لبناء النظام الاجتماعي. المجتمع المدني بالنسبة لهوبز ولوك هو القوة الدافعة للنظام السياسي التعاقدي وهو ضمانة استمرار وأساس شرعية الدولة وإن كان لا يتماهى معها، ولقد عرّف هوبز المجتمع المدني بأنه التعبير عن رابطة الولاء السيادي للدولة، وهو يقصد هنا أن السلطة السياسية تكتسي شرعيتها من الإرادة الجماعية المتشكلة من عقد اجتماعي حر. وليس للدولة من دور سوى تحقيق الاستقرار والأمن للديناميكية المجتمعية الحرة، أي الحريات الفردية لمواطنين أحرار ومتساوين حسب العقيدة الليبرالية السائدة.

وفي حين اعتبر هيغل أن المجتمع المدني بمفهومه الحديث هو التجسيد الموضوعي للحرية من خلال نظام الطبقات المتولد عن الثورة الصناعية، ذهب ماركس إلى أن التناقضات الطبقية ستقضي تدريجيًا على الدولة بدلًا من أن تكون إطارًا مؤسسيًّا لاحتضانها وتجاوزها كما كان يقول هيغل.

إلا أن الأحداث اللاحقة أثبتت بوضوح صدق الأطروحة الهيغلية المبنية على فكرة الانزياح المؤسسي بين الدولة والمجتمع المدني، واعتبار هذا الانزياح الشرط الضروري للحرية والانسجام في الكيانات السياسية الحديثة.
ومن الواضح أن التجارب السياسية التي أرادت أن تقوض هذا الانزياح من خلال الدولنة الشاملة، كما هو شأن الأنظمة الماركسية والشيوعية والأحزاب الأحادية، انتهت إلى أبشع أنواع الاستبداد دون أن تنجح في تحقيق مطلب العدالة الاجتماعية الحقيقية.

ولا بد من أن نوضح هنا أن مفهوم المجتمع المدني خضع منذ النصف الثاني من القرن العشرين لتعديلات دلالية أساسية، فلم يعد محصورًا في نظام الطبقات الاجتماعية الذي أفرزته الثورة الصناعية ونظام قسمة العمل المرتبط بها، بل أصبح أساسًا متمحورًا حول نشاط الجمعيات والمبادرات المدنية والحقوقية الهادفة إلى تكريس استقلالية وحرية الفرد، في مقابل قبضة وتحكم السلطات السياسية التنفيذية.

لقد حدث هذا التحول في مرحلة شهدت النقد الجذري لمسار التسلط الرقابي والضبطي للدولة المعاصرة، بما يفرض البحث عن مخارج من ضيق وانغلاق الحقل السياسي نفسه.

وهكذا؛ اتسع المجال الدلالي للمجتمع المدني الذي أصبح يُعرف، وفق مقاربة الفيلسوف الألماني يزرع يورغن هابرماس بأنه “الفضاء العام، الذي يتم فيه النقاش حول الفوارق الاجتماعية، والمشاكل المجتمعية، والسياسات العمومية، والنشاط الحكومي، والقضايا المجموعاتية والهويات الثقافية”. ما يهم هابرماس في هذا التعريف هو المسار التداولي المفتوح الذي يقتضي شروطًا ثلاثة أساسية هي: حرية الأفراد، والمساواة الكاملة التي تجمعهم، وعمومية المجال المشترك بينهم.

التحول النوعي هنا هو رفض تحكم المؤسسة السياسية الشرعية في ضبط الديناميكية الاجتماعية في دوائرها المختلفة، ومنح هوامش قوية للمجموعات المدنية والحقوقية في استراتيجية النقاش العمومي حول الموضوعات المحورية التي تخص المجتمع بدلالته الأوسع.

في تسعينيات القرن الماضي، هيمن على الفكر العربي سؤالان مترابطان هما: كيف يمكن الجمع بين الحاجة الموضوعية إلى الدولة في مجتمعات مفككة وهشة، والحاجة الملحة إلى الحرية السياسية والحقوق المدنية على حساب قبضة وتحكم الدولة؟ وما هي الإمكانات العملية لمجتمع مدني حي وفعال في الواقع العربي؟

لقد حاول بعض الباحثين من المؤرخين وعلماء الاجتماع البحث عن مقابل للمجتمع المدني في السياق المجتمعي العربي الوسيط، ومن بينهم المؤرخ والمفكر اللبناني وجيه كوثراني الذي كشف عن بعض تجليات ما أطلق عليه المجتمع الأهلي المستقل في نظام الاجتماع المدني العربي القديم، ورصد في هذا السياق مؤسسات فاعلة مثل الأصناف، والأوقاف، والنظم الطائفية والعشائرية والطرقية الصوفية، وغيرها، معتبرًا أنها أدت في مراحل واسعة من التاريخ الاجتماعي العربي دور المجتمع المدني الحديث في حماية حرية الفرد واستقلاليته رغم بطش الأنظمة القائمة وميلها للاستبداد والتسلط. كما أن المفكر المغربي المعروف عبد الله العروي بيّن في كتابه “مفهوم الحرية” التعارض الجلي بين التفكير النظري الغائب حول الحرية، وإمكانات التحرر العديدة في الدولة السلطانية الوسيطة التي لم تكن تسيطر على جوانب واسعة من الحياة الاجتماعية.

وفي حين تشبث البعض بمطلب الدولة القوية المهيمنة شرطًا للبناء التحديثي الذي يتطلب التحكم الشامل في كل الهياكل والنظم الاجتماعية، تصاعدت في العقدين الأخيرين المطالب المدنية والحقوقية للدفاع عن معايير المواطنة الحرة المستقلة في مواجهة تحكم سلطة سياسية مستبدة وعاجزة عن تحقيق هدف العدالة الاجتماعية.

لقد ظهر بوضوح أن الهدفين لا يتعارضان بل يتكاملان موضوعيًا، لأن المجتمع المدني شرط لا غنى عنه لبناء المواطنة السياسية الحرة باعتبارها لا بد أن تستند لإرادة داخلية صلبة ومفتوحة، كما أن الدولة ضرورة قصوى لاحتواء واستيعاب هياكل المجتمع المدني في استقلاليته وتميزه.

ومن هنا ساد في السنوات الأخيرة وعي متزايد بأن حركية المجتمع المدني قادرة على تحقيق ما فشلت فيه الأحزاب السياسية من ضمان الحريات العامة والديمقراطية التعددية في العالم العربي نتيجة خياراتها الأيديولوجية وأنماط نشاطها العملي التي غالبًا ما تؤدي بها إلى الانخراط في شبكات الزبونية السلطوية.

ولا شك في أن حركية المجتمع المدني العربي نجحت إجمالًا في سد فراغات العمل السياسي في كثير من الساحات العربية، بما يشكل حالة متميزة في العالم المعاصر، إلا أن تجارب الانتقال السياسي في البلدان العربية -كما كشفت حالات الربيع العربي المتعثّرة- توضح بجلاء أن هذه الحركة المدنية وإن استطاعت قيادة عملية القطيعة والتحول، إلا أنها لم تجد الحاضنة السياسية الضرورية لتحقيق مهمتها التاريخية الكبرى. بيد أن الشارع السياسي هو المسؤول عن هذا الإخفاق وليس المجتمع المدني.