في بداية التسعينيات، أصدرت الكاتبة الكاميرونية “أكسيل كابو” كتابًا مثيرًا بعنوان “ماذا لو كانت إفريقيا ترفض التنمية؟”، شككت فيه في نجاعة مقاربات التنمية الاقتصادية السائدة أوانها بضغط من المؤسسات المالية الدولية. كان المطروح وقتها هو مساعدة دول العالم الثالث في تحقيق مسار النهوض الاقتصادي من خلال إجراءات الخصخصة الليبرالية المفضية إلى تحقيق التوازنات الكبرى في المجالات المالية، ولو على حساب المسؤوليات والوظائف الاجتماعية للدولة من تشغيل ورعاية وسياسات تضامن وإدماج.
في الفترة نفسها، كتب المفكر اللبناني إيليا حريق عدة دراسات عن أزمة الدولة الريعية العربية التي فشلت في النقلة الليبرالية لأسباب مجتمعية، وثقافية عميقة وجوهرية.
ما ذهب إليه الباحثون العرب والأفارقة معًا في التسعينيات هو الحفر في جذور العجز المجتمعي عن التحديث الليبرالي، سواء من خلال الوقوف على عناصر محددة في المتخيّل الجمعي، والتقاليد الرمزية والاجتماعية مثل ثقافة الهبة والتوزيع التي تلتبس باقتصاد الجريمة والرشوة، أو من خلال اختلالات منظومة التبادل الدولي (علاقة المركز بالمحيط وما ينتج عنها من تبادل لا متكافئ حسب نظرية سمير أمين الشهيرة).
بيد أنه منذ نهاية التسعينيات، أصبحت المؤسسات المالية الدولية نفسها واعية، بأن عملية التنمية تتجاوز نوعيًا اعتبارات النمو الكمي، ولها جوانبها الإنسانية التي تغطي كل مناحي الرفاهية والحقوق التي يقتضيها الوضع البشري فرديًا وجماعيًا. وهكذا أصبحت التنمية تتعلق بجوانب عديدة كانت مهملة مثل الحريات العامة، وتمكين المرأة والصناعات الثقافية والترفيهية، وغيرها.
لقد انعكست هذه المقاربة الجديدة للتنمية على تصور طبيعة ودور المؤسسات والتشكيلات الفاعلة في النظام الاجتماعي، بما يبرز في سياقات ثلاثة أساسية هي:
- تراجع محورية الاقتصاد بجوانبه المالية والكمية في المقاربة التنموية، بحيث انهارت مصادرة استقلالية الحقل الاقتصادي عن بقية النظم الاجتماعية وانتكست أطروحة كونية النموذج الليبرالي شرطًا للنهوض والتحديث. وهكذا، أعيد الاعتبار للعوامل الثقافية والرمزية في البناء الاقتصادي، بالرجوع إلى نظرية ماكس فيبر الشهيرة حول علاقة الرأسمالية بالإصلاح البروتستانتي، ومن خلال المقارنة بالتجارب الآسيوية الناجحة التي تمت بفضل النظام العائلي غير الفردي وهيمنة الدولة المركزية بدلًا من الحد منها وكبح تدخلها في النشاط الإنتاجي. وما نخلص إليه هنا هو أن النهضة الاقتصادية هي نتاج خيارات ثقافية واجتماعية ليست أحادية الاتجاه أو التوجه.
- تراجع المفهوم المادي للعمل المرتبط بالثورة الصناعية الأولى التي قامت على نموذج “المادة الصلبة” وثنائية الإنتاج والاستهلاك والصراع الطبقي بين رب العمل والشغيلة. ما حدث مؤخرًا مع الثورة التقنية الجديدة هو بروز نمط العمل غير المادي الذي غيّر نوعيًا خارطة العلاقات الطبقية وشكل الهياكل التبادلية الجماعية، بما كان له انعكاساته القوية في الحقل الأيديولوجي والسياسي (انهيار الأحزاب السياسية العريقة القائمة على القسمة بين اليمين واليسار، وانحسار الديمقراطية التمثيلية، وقيام النزعات الشعبوية الجديدة المتمردة على ديناميكية العولمة).
- تراجع نموذج الدولة الوطنية والمرجعية السيادية التي تأسست عليها، بحيث أصبحت إما مظلة واسعة لا تحتاج إليها البنيات المحلية المكتفية بنفسها، أو ضيقة غير قادرة على التلاؤم مع التحديات الكونية الكبرى العابرة للحدود مثل الإشكالات المناخية، والقيمية والمالية والتقنية الراهنة.
لقد نتج عن هذه التحولات الثلاثة صعود مفهوم “المجتمع المدني” الذي كان في السابق محصورًا في النشاط الاقتصادي الطبقي للمجتمعات الصناعية الكلاسيكية.
في ثلاثيتهما الشهيرة (الإمبراطورية، والجمهور، والكومنولث)، يسعى الفيلسوفان “توني نغري” و”مايكل هاردت” إلى إبراز هذا الدور الجديد للمجتمع المدني في عالم لم تعد تحكمه مقاييس الدولة القومية السيادية، والحضارة الصناعية المركزية والديمقراطية التمثيلية.
فالمجتمع المدني هو أولًا حاجة داخلية جوهرية للحفاظ على الكيانات الوطنية بعد أن أصبحت الحالة السياسية عاجزة عن تأمين هدف الإدماج الكوني الشامل. لقد استطاعت حركات المجتمع المدني النشطة إنقاذ بلدان تحللت فيها الدولة في سياقات الصراع الأهلي، والتدخل الخارجي، وفشل الحكومات في وضع وترتيب السياسات العمومية. ذلك ما تؤكده تجارب عربية وإفريقية عديدة، من بينها الوضع الفلسطيني تحت الاحتلال وفي الشتات، والوضع الليبي في ظل الانقسام. ففضلًا عن كون الدولة الوطنية تصبح في بعض الحالات عبئًا على المجتمع إن لم تكن في عداء معه، فإن التجربة أثبتت أن فاعلية المجتمع الأهلي قد تعوض في لحظات التأزم والانتقال الحرج الهياكل المركزية، وإن كانت المؤسسات العمومية ضرورية لأي أمة ومجتمع.
كما أن المجتمع المدني استطاع الاندماج النشط في حركية العولمة المتنامية التي بلورت مفهوم السيادة المتقاسمة بدلًا من السيادة المطلقة الأحادية. ومن الواضح اليوم أن شبكات المجتمع المدني العابرة للحدود والقارات أصبحت واقعًا فعليًا لا بد من التعامل معه. لقد برزت هذه الظاهرة بصفة ملموسة خلال المبادرات المدنية والحقوقية الكبرى، وآخرها ما واكب الحرب الإسرائيلية العدوانية في غزة التي ولدت ديناميكية احتجاجية واسعة على النطاق العالمي، تحملها مكونات فاعلة من شبكات المجتمع المدني العالمية.
وعلى المستوى السياسي، بلورت حركية المجتمع المدني نمطًا جديدًا من الممارسة الديمقراطية، في سياق انحسار الأحزاب الشعبية المنظمة وتراجع المد الثوري التغييري، بما نلمسه في الموجات الاحتجاجية الكبرى التي عرفها العالم في السنوات الأخيرة مثل حركة “احتلوا وول ستريت” (Occupy Wall Street) في الولايات المتحدة الأمريكية، واحتجاجات “السترات الصفراء” في فرنسا، وحركة “الساخطين” (Indignados) في إسبانيا.
بل إن أغلب الزعامات السياسية الصاعدة حاليًا في الديمقراطيات الغربية تنحدر من تيارات اجتماعية وحركات احتجاجية غير حزبية، في الوقت الذي انهارت كليًا الحدود الفاصلة بين التشكيلات الحزبية التقليدية.
وما تؤكده الموجة الشعبوية الجديدة في الغرب (في وجهيها اليميني واليساري) هو انتكاسة الديمقراطية التمثيلية في منطقها التأليفي ونظمها التوازنية، بحيث نلمس اليوم العودة إلى فكرة تماهي القيادة السياسية مع الروح الوطنية والشعبية، بما يترتب عليه أن الأحزاب المنظمة لم تعد هي قاعدة العمل السياسي بل الحركات المجتمعية المدنية، كما أن المجتمع المدني هو اليوم وحده المؤهل للدفاع عن الديمقراطية التعددية والحريات العمومية بعد أن انكسرت منظومة الفصل بين السلطات، وانفصمت العلاقة بين الديمقراطية الإجرائية والفكرة الليبرالية.