الدراسات الدكولونيالية Decolonial Studies اتجاه فكري وبحثي في العلوم الإنسانية، تختلف في بعض المحددات الجوهرية مع ما يعرف بما بعد الاستعمار أو بالنظرية النقدية التفكيكية ولو كانت الروابط المفهومية والمنهجية قائمة بين مختلف هذه الاتجاهات.
ظهرت الدراسات الدكولونيالية في بلدان أمريكا اللاتينية والكاريبية في العقدين الأخيرين، ومن أبرز أعلامها عالم الاجتماع البيروفي أنيبال كويخانو، والفيلسوف الأرجنتيني إنريك دوسل، وعالم الاجتماع البورتريكي رامون غروسفجيل، والفيلسوفة الأرجنتينية ماريا لوغينس والفيلسوف الكولومبي سانتياغو كاسترو غوميز. أغلب هذه الأعمال باللغة الإسبانية وغير مترجمة إلى اللغة العربية.
في كتابهما المشترك الصادر بالفرنسية بعنوان “الأفكار الدكولونيالية” يبين فيليب كولين وليسال كويروز أن هذه الكتابات على اختلافها الواسع تتفق في القول إن موجة نزع الاستعمار التي حدثت في القرن العشرين لم تفض إلى التخلص من الظاهرة الاستعمارية ومن ثم فإن المشروع التحرري يبقى قائمًا ومفتوحًا، ويكمن في دراسة وتحليل البنيات السلطوية والتراتبية وأشكال التمييز المختلفة على الأصعدة العرقية، والنوعية، والإبستمولوجية، والروحية، والاقتصادية، والتربوية والجمالية… إلخ.
فهذه البنيات تشكلت مع بروز النسق العالمي الحديث الذي فرضه الغرب على بقية البشرية منذ اكتشاف القارة الأمريكية في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. وهكذا يظهر أن هذه الأطروحات تعالج موضوعات تتجاوز الحيز اللاتيني الأمريكي الضيق، حتى لو كانت في حقيقتها امتدادًا لحركة الأفكار النشطة التي عرفتها المنطقة وبصفة خاصة النظرية الماركسية الثورية في عشرينيات القرن الماضي ونظرية التبعية والتحرر في الستينيات والسبعينيات.
كان كويخانو قد بلور في التسعينيات مفهوم “كولونيالية السلطة” ويعني به أن استقلال دول الإقليم، لم يحل دون استمرار هياكل السلطة والهيمنة الموروثة عن الاستعمار الأوروبي، بحيث يمكن الحديث عن “استبطان” داخلي للروح الاستعمارية لدى الشعوب المحلية بما ينعكس في مختلف مستويات الحياة الاجتماعية. إن هذه الوضعية تظهر حسب كويخانو في محورين أساسيين من محاور السلطة هما محور الرأسمال-الشغل ومحور الأوروبي- غير الأوروبي. ومن هنا، لا تكون الهوية العرقية مسألة وعي أيديولوجي أو تجسيدًا لمعادلة اقتصادية، وإنما محددًا فاعلًا في شكل الاقتصاد السياسي القائم، بمعنى علاقات وروابط السلطة المهيمنة.
ولا شك في أن أعمال أنريك دوسل تكتسي أهمية خاصة في تحديد هذه التوجهات النظرية، فهو الذي فكك نقديًا مقولة “الإنسانية” من حيث هي مثال مجرد بلورته الفلسفات والعلوم الإنسانية الحديثة لغرض الفصل الوجودي الجذري بين الغربي والآخر، بما انعكس عمليًا في السياق الإستراتيجي والسياسي.
دوسل الذي توفي في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 في مدينة مكسيكو ينتقد بشدة ما سماه “الأسطورة الأوروبية للحداثة” التي هي في حقيقتها استغلال عنيف لجسد التابع وقضاء مبرم على ثقافته. ومن هنا ضرورة العمل على ما أطلق عليه “الحداثة البديلة” القائمة على الحوار بين الثقافات والندية بين شعوب وحضارات العالم، بما يقتضي تحويرًا دلاليًا نوعيًا لمفاهيم الكونية والعلومية والديمقراطية.
في كتابه الأهم “فلسفة التحرر” نلمس نزعة إنسانية قوية مستمدة من أفكار الفيلسوف الفرنسي أمانويل لفيناس ومن “ميتافيزيقا المغايرة” التي اقترحها بديلًا من “الانغلاق الأنطولوجي” الذي اعتبر أنه السمة الغالبة على العقلانية الأوروبية. في هذا الكتاب، يحرص دوسل على إبراز وجه الاختلاف والتميز الذي يتسم به الآخر المضطهد والمقصي (الهندي، والمرأة، والفقير والطفل مطمس الهوية الثقافية)، في مواجهة أنساق الهيمنة المتحكمة في مكوناتها العرقية، والنيوليبرالية والإثنية المركزية. وهكذا تغدو مهمة الفكر الدكولونيالي هي الكشف عن “وجه” الآخر المخفي مسلكًا لتحريره من الهيمنة الرمزية والاجتماعية.
دخل دوسل في نقاش ثري مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في كتابه “أخلاقيات التحرر” الذي بيّن فيه حدود أخلاقيات النقاش العمومي التي دافع عنها هابرماس، معتبرًا أنها قاصرة عن بلوغ مدى الإنسانية الكونية الحقيقية في ما وراء المركزية الغربية التي ترفض التغذي من الروافد الخارجية.
إنه يدعو إلى نمط جديد من الكونية هي كونية “الأطراف” التي تطرح بديلًا إنسانيًا شاملًا، جامعًا بين الحقوق المادية والرمزية التي هي ضوابط ومتطلبات التحرر الفردي والجماعي، مستلهمًا في الأفق نفسه أفكار “لاهوت التحرر” التي ظهرت في الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية الأمريكية في سبعينيات القرن الماضي.
لا بد من التنبيه هنا إلى أن الدراسات الدكولونيالية، وإن كانت تتجه بقوة إلى نقد الظاهرة الاستعمارية في أبعادها السياسية، والثقافية والاستراتيجية، إلا أنها توظف أدوات البحث الأكاديمي وتستخدم إيجابيًا أدوات التفكير الغربي رغم نقدها الجذري. ما يهم هذه الدراسات هو تفكيك التصورات الجيوسياسية والنظرية للحداثة في علاقتها بتشكل الغرب كمنظومة هيمنة وتحكم في العالم، لكن هذا التفكيك يتم من خلال الآليات الإبستمولوجية والتأويلية التي بلورها الفكر الغربي نفسه من أجل جرفها في سياق تحرري نقدي جديد.
لا يبدو أن الفكر العربي قد اطلع بقوة على الأدبيات الدكولونيالية، وإن كان اهتم على نطاق واسع بنقد المركزية الغربية، والكونية الإنسانية الأوروبية، بما بلغ أوجه في مشروع المفكر المصري الراحل حسن حنفي في سعيه لتأسيس “علم الاستغراب” يهدف حسب عباراته إلى “تحجيم الغرب” أي الوقوف على محطات وعيه والكشف عن حدوده المعرفية والتاريخية. ولقد كان حنفي سباقًا إلى التعريف بلاهوت التحرر اللاتيني الأمريكي الذي حاول استنساخه إسلاميًا في مقاربته لبناء “لاهوت للثورة” له ذراعه السياسي التي أطلق عليها “اليسار الإسلامي”.
إلا أن حنفي ومن حذا حذوه في الفكر العربي غابت عنه اعتبارات الكونية البديلة التي شغلت مفكري أمريكا اللاتينية، وبدا أنه انساق وراء شعار الخصوصية الثقافية والتميز الحضاري الذي يفضي حتمًا إلى الانغلاق في الهوية الضيقة، بما يشكل في العمق أثرًا من آثار النزعة الكولونيالية في ميولها التصنيفية الإقصائية، في حين أن المطروح هو كسر الهيمنة المعرفية والإبستمولوجية الغربية لفسح المجال أمام كونية إنسانية حقيقية لا تسلط فيها ولا هيمنة.