الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

النزعة المحافظة الأمريكية الجديدة: الخلفيات والأبعاد
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

بعد عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلطة، ظهرت كتابات كثيرة في الساحة الأوروبية تتحدث عن القطيعة الحاسمة بين جناحي الغرب على أساس الموقف من الديمقراطية الليبرالية التي يبدو أن القيادة الأمريكية الجديدة قد تخلت عنها.

الواقع أن هذا التوجه الذي يطلق عليه في بعض الأدبيات “النزعة المحافظة الأمريكية” ليس بالجديد، بل له جذوره منذ قيام النموذج الأمريكي الحديث، كما أنه عرف موجة تجدّد وصعود في مراحل مختلفة من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية المعاصر(مع الرئيس الأسبق رونالد ريغن في الثمانينيات بالخصوص)، وهو اليوم في طور الطفرة الهائلة.

ليس الحلف بين اليمين القومي والاتجاهات الأصولية الإنجيلية سوى مظهرٍ من هذه النزعة المحافظة التي تتأسس حسب أدبيات الآباء المؤسسين على مفهوم “الفضيلة المدنية” في مقابل معيار الحرية الفردية المكتفية بنفسها الذي هو مبدأ الليبرالية الديمقراطية.

ما نلمسه اليوم في الخطاب الفكري الأمريكي الراهن هو عودة عارمة لكتابات الفيلسوف الألماني ليو شتراوس الذي عاش في الولايات المتحدة الأمريكية منذ ثلاثينيات القرن الماضي قبل رحيله في السبعينيات ودرّس عقودًا طويلة في جامعة شيكاغو وأثر بقوة في دوائر الاقتصاديين والساسة وعلماء الاجتماع، وكان له دور هام في شحذ العدة الفلسفية للاتجاه الأمريكي المحافظ.

الفكرة الأساسية التي ينطلق منها ليو شتراوس هي العودة للتقليد الكلاسيكي في مصدريه الديني (اليهودي في امتداداته المسيحية والإسلامية الوسيطة) والفلسفي (الفكر الأنطولوجي اليوناني). ما يجمع بين هذين المصدرين هو مركزية الشرائع في تصور النظام السياسي والشأن العمومي، سواء أكان هذا القانون شرعًا منزلًا كونيًا أم تعبيرًا عن الخير المشترك العقلاني. ما يميز المصدرين هو أن الرافد التوحيدي (أورشليم) يقوم على الإيمان والوحي والحكمة (أولوية العمل على النظر)، في حين أن الرافد الفلسفي يمنح الأولوية للنظر المجرد والعلم البرهاني بدلًا من الاعتقاد والرأي.

لقد تغيرت هذه الصورة حسب شتراوس مع عصور الحداثة والتنوير التي كرست القطيعة الخطيرة بين الأخلاق والسياسة، وأنهت التوتر الإشكالي الثري بين الوحي والعقل، وألغت سؤال العدالة السياسية من خلال المقاربة الحسابية النفعية للعقل وما يترتب عليها من نظرية فردية للدولة وللشرعية السياسية. المفارقة هنا حسب شتراوس أن فكرة المساواة القانونية التي هي المكسب الأكبر للديناميكية الليبرالية بقدر ما بلورت قيمة التكافؤ بين البشر، شرّعت من جهة أخرى التمييز والقمع لكونها اعتمدت معيارًا إجرائيًا شكليًا للكونية الإنسانية يلغي كل المضامين القيمية والروحية للثقافة البشرية باسم العلمانية الديمقراطية والعقلانية الموضوعية. لقد بدأ هذا التحول مع ماكيافيلي ونظريته حول العقل العمومي، وتوطد مع نزعة هوبز الفردية، ليكتمل مع عدمية نيتشه التي قضت بالكامل على ثنائية الخير والشر التي هي منبع كل منظور أخلاقي ورهان كل فلسفة سياسية تبحث عن العدالة والخير العمومي.

في مقابل التنوير الحديث الذي يسميه عدميًا ونسبويًا، يقترح شتراوس العودة إلى التنوير الكلاسيكي “اليهودي والعربي الوسيط” الذي حافظ على مركزية القانون المدني، وعلى العقلانية التأويلية للنص وفكرة العدالة الأخلاقية المطلقة كما تتجسد في البحث عن المدينة الفاضلة من خلال علم وجودي موضوعه السياسة المدنية ورهانه السعادة الفردية والجماعية.

قد لا تكون هذه الأفكار واضحة في خطاب النخب السياسية الأمريكية الحاكمة، بل تبدو أوضح وأجلى في أدبيات تيار المحافظين الجدد الذي تبوأ موقعًا متميزًا في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن وكان بعض أقرب أعوانه من التلاميذ المباشرين لشتراوس، إلا أن استخدام الرئيس ترامب عبارتي “الصواب المشترك” و”الحدس السليم”، وتوظيفه للقاموس الأخلاقي الإطلاقي في مقابل مفاهيم الليبرالية الديمقراطية، كلها مؤشرات صريحة على انطلاقه من النزعة المحافظة الأمريكية التي تعايشت دومًا مع التيار الليبرالي وها هي اليوم تتغلب عليه في الموازين الانتخابية.

لا يعني الأمر في هذا التوجه الخروج عن ميثاق الحداثة الذي شكلت الثورة الأمريكية مظهرًا أساسيًا له، بل يمكن اعتباره من زاوية الأزمة العميقة التي دخلت فيها الديمقراطية الليبرالية في السنوات الأخيرة.

إن لهذه الأزمة جوانب ثلاثة محورية تستوقف اليوم اهتمام المفكرين والفلاسفة الأمريكان: أزمة الذاتية الفردية التي قوّضت تدريجيًا الهويات المعنوية والتعبيرية الجماعية في مجتمع ما تزال الطوائف الدينية فيه تشكل قاعدة المجتمع المدني الحي ومن هنا رفض تجاوزات الخطاب التفكيكي وصعود الهويات الاختلافية المشرعة قانونيًا، وأزمة القيم الاستحقاقية التي ارتكزت عليها نظريات العدالة والسياسة فانتهت إلى عكس مرادها بتعطيل ديناميكية الصعود الاجتماعي، وأزمة الكونية المعولمة التي نجم عنها تراجع قوة المجتمع الأمريكي وبروز قوى دولية منافسة ومعادية.

قد لا تكون ظاهرة ترامب تعبيرًا مباشرًا وموضوعيًا عن هذه الأزمة الثلاثية المضاعفة، لكن مما لا شك فيه أنها هي القوة المحركة للثورة المحافظة الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية. من تعبيرات هذه الثورة التحالف غير المسبوق بين خطاب القوى التقنية الليبرتارية المناهضة لتقييد حرية التعبير والإبداع والنزعة الدينية المتشددة التي تتبنى موقفًا مناوئًا من سياسات وقوانين “التحرر الاجتماعي” التي هي ركيزة برامج اليسار الديمقراطي، لكن لا بد من الإشارة في ما وراء هذا الحلف الجديد إلى الاتجاه المتنامي لفصل معايير المواطنة والمشاركة السياسية عن اعتبارات السيادة الفردية التي هي أرضية الفكر الليبرالي.

لقد لاحظ المفكر الفرنسي ألكسيس دي تكوفيل في القرن التاسع عشر أن الديمقراطية الأمريكية تختلف عن النموذج الأوروبي في مسألة أساسية هي حفاظها على التقليد الديني والاجتماعي والاستناد إليه في جوهر فكرة الحرية نفسها، بما من شأنه خلق توتر دائم بين الديمقراطية والليبرالية. لا شك في أن ما نشهده حاليًا هو تحقق هذا المشهد الذي نبه إليه دي تكوفيل قبل قرنين، وليس من المجدي محاكمة التحول الهائل الراهن بدلًا من فهمه في سياقه، وخلفياته المحددة وأسبابه العميقة.