الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

النظام الإقليمي العربي والقضية الفلسطينية، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

 يقصد بالنظام الإقليمي العربي ذلك النسق الذي ترسمه حركة التفاعلات التي تجري بين جميع الدول والمجتمعات العربية، وقد أصبح لهذا النظام إطار مؤسسي رسمي تتفاعل وحداته من خلاله، وذلك منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945. ويتميز النظام الإقليمي العربي عن غيره من النظم الإقليمية أو الفرعية بسمته القومية الداعية إلى وحدة الشعوب العربية، من منطلق أنها شعوب تنتمي جميعها إلى أمة واحدة يحق لها إقامة دولتها الموحدة وإنهاء واقع التجزئة الذي تعيشه. وانطلاقًا من هذا التعريف، يمكن القول إن للنظام الإقليمي العربي بعدين: أحدهما رسمي تمثله جامعة الدول العربية، والآخر شعبي تحدده حركة التفاعلات التي تجري بين الشعوب العربية من خلال الأطر غير الرسمية. وقد ارتبط النظام العربي الرسمي، نشأة وتطورًا، ارتباطًا عضويًّا بالقضية الفلسطينية التي شغلت حيزًا كبيرًا من المشاورات التمهيدية التي سبقت قيام جامعة الدول العربية.

ولأن الشعوب العربية كانت تتابع بقلق ما يجري على الساحة الفلسطينية في ذلك الوقت، وتضغط بالتالي على حكوماتها من أجل تقديم أقصى دعم ممكن للشعب الفلسطيني في نضاله ضد المشروع الصهيوني، فلم يكن بمقدور الحكومات العربية الساعية لتأسيس إطار مؤسسي للتعاون فيما بينها، تجاهل قضية شعب عربي يخوص معركة تحرر وطني في ظل أوضاع بالغة الصعوبة والتعقيد. وقد أسفرت هذه الضغوط الشعبية المطالبة بنصرة القضية الفلسطينية عن تضمين ميثاق الجامعة العربية ملحقًا خاصًّا عن فلسطين، يؤكد التزام حكومات الدول العربية بالعمل على تمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على حقه في تقرير مصيره ونيل استقلاله، أسوة بباقي الشعوب العربية الأخرى. لذا، لم يكن غريبًا أن تحتل القضية الفلسطينية موقع الصدارة على جدول أعمال جامعة الدول العربية، بدليل أن أول مؤتمر قمة عربي يعقد في تاريخ الجامعة (قمة أنشاص لعام 1946) كرّس أعماله لمناقشة التطورات الخاصة بهذه القضية.

لفهم عمق الارتباط بين النظام الإقليمي العربي والقضية الفلسطينية، ينبغي التمييز بين مرحلتين رئيسيتين:

الأولى: مرحلة المواجهة المسلحة مع الكيان الصهيوني، وهي المرحلة التي بدأت فور إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 واستمرت إلى حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، والتي أراد لها السادات أن تكون آخر الحروب.

والثانية: مرحلة البحث عن تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي، وهي المرحلة التي بدأت مع زيارة السادات للقدس عام 1977 وما تزال مستمرة حتى الآن، دون أن يلوح في الأفق أي أمل لتسوية حقيقية لهذا الصراع.

أولًا: مرحلة المواجهة المسلحة:

حرصت جامعة الدول العربية خلال السنوات الأولى التي أعقبت تأسيسها على التصدي للمحاولات الرامية لإقامة دولة يهودية على أي جزء من الأرض الفلسطينية، ومن هنا رفضت الدول العربية مشروع قرار تقسيم فلسطين الذي ناقشته وأقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947. وعندما أقدم بن جوريون على إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 أيار/مايو 1948، لم تتردد الدول الأعضاء في الجامعة العربية في خوض مواجهة مسلحة استهدفت إجهاضها، باعتبارها دولة غير شرعية ومغتصبة لحقوق الشعب الفلسطيني، لكنها لم تتبين أنه هدف أكبر من قدرتها على تحقيقه، خاصة وأن معظمها كان ما يزال واقعًا تحت نير الاستعمار الأوروبي، إلا بعد أن لحقت بها هزيمة مدوية في أول حرب تخوضها ضد هذا الكيان الدخيل على المنطقة. ومع ذلك، فإن هذه الهزيمة، والتي مكنت إسرائيل من احتلال ما يقرب من ضعف المساحة المخصصة لها في مشروع التقسيم وأجبرت الدول العربية المجاورة لها على إبرام اتفاقيات هدنة معها عام 1949، لم تكسر إرادة النظام العربي أو تجبره على الاستسلام للأمر الواقع، لذا ظلت جميع الدول العربية تعتبر نفسها في حالة حرب مع إسرائيل، وقام مجلس جامعة الدول العربية باتخاذ قرار عام 1950 يحظر فيه على كافة الدول الأعضاء الاعتراف بإسرائيل أو الاتصال بها أو التفاوض معها. وكان هذا هو السياق العام لسلسلة من الحروب المتتالية التي قادتها مصر في مواجهة إسرائيل أعوام 1956 و1967 و1973. وللمفارقة، فقد كانت حرب 73، والتي جسدت ذروة التضامن العربي، هي آخر الحروب التي خاضتها الجيوش العربية النظامية في مواجهة إسرائيل. بعدها راح عقد النظام العربي الرسمي ينفرط تدريجيًّا، خاصة بعد قرار السادات زيارة القدس في 19 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1977، وبانفراطه دخلت القضية الفلسطينية منعطفًا جديدًا.

ثانيًا: مرحلة البحث عن تسوية سلمية:

مثلما قادت مصر، خاصة مصر الناصرية، مرحلة النضال المسلح ضد المشروع الصهيوني، قادت مصر أيضًا، خاصة مصر الساداتية، مرحلة التسويات السياسية المنفردة مع إسرائيل. صحيح أن النظام الإقليمي العربي حاول في البداية مقاومة هذا التوجه الاستسلامي الذي بدأه السادات، بدليل رفض معظم الدول العربية معاهدة السلام المنفردة التي أبرمها مع إسرائيل عام 1979، ولم تتردد في نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، غير أنه لم يتمكن من الصمود طويلًا، وسرعان ما رجحت كفة التوجه الباحث عن تسوية سياسية بأي ثمن على كفة التوجه المقاوم. ويعود السبب الرئيسي للانتكاسة الثانية التي مني بها النظام العربي إلى قرار صدام حسين غزو الكويت عام 1990. فما إن انتهت “حرب تحرير الكويت” حتى انعقد مؤتمر مدريد الذي حضرته، إلى جانب إسرائيل، كافة الدول العربية وذلك لأول مرة تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وانطلقت في أعقابه مباشرة موجة ثانية من موجات التطبيع العربي الرسمي معها، حين قامت منظمة التحرير الفلسطينية بابرام اتفاقية أوسلو عام 1993 وتبعها الأردن بإبرام اتفاقية وادي عربة عام 1994. صحيح أن النظام العربي الرسمي ظل، رغم كل ما جرى، يدعي التزامه بالمحافظة على الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية وتمسكه بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بدليل إقدام مؤتمر القمة العربي المنعقد في بيروت عام 2002 على اتخاذ قرار بالإجماع، يبدي فيه استعداد الدول العربية كافة الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، شريطة انسحابها من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 67 وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، غير أن الجهود التي بذلت على هذا الصعيد، سواء من جانب الدول العربية أو من جانب المجتمع الدولي، لإقناع إسرائيل بالتوصل إلى تسوية تستند إلى مبادرة بيروت العربية، باءت جميعها بالفشل.

وقد استمر الوضع على هذا المنوال حتى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وقيامه بطرح مبادرة استهدفت تصفية القضية الفلسطينية أطلق عليها “صفقة القرن”، قرر في إثرها الاعتراف بالقدس الموحدة “عاصمة أبدية لإسرائيل” ونقل السفارة الأمريكية إليها. بل إن دولًا عربية عديدة، في مقدمتها الإمارات والبحرين، أقدمت متحدية على إبرام معاهدات سلام جديدة مع إسرائيل “اتفاقيات أبراهام”. ولم يكن لذلك كله سوى معنى واحد، وهو أن النظام العربي الرسمي بدأ عملية فك ارتباط تدريجي بالقضية الفلسطينية ولم يعد يتمسك حتى بهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة كشرط لتطبيع العلاقة مع إسرائيل، ما شجع الأخيرة على زيادة وتيرة مشروعاتها الاستيطانية التي استهدفت قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية يوميًّا، والتسريع بعملية تهويد القدس، بل وذهبت إلى أبعد مدى يمكن تصوره، بالتهديد بهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه. وهكذا ترك الشعب الفلسطيني وحيدًا في مواجهة أكبر مشروع استيطاني عنصري عرفه التاريخ.

ما تزال الحكومات العربية تدعي تمسكها بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، لكن تصرفاتها الفعلية على الأرض تؤكد أنها لم تعد تملك غير إصدار بيانات فارغة من أي مضمون وعاجزة عن ممارسة أي تأثير حقيقي من شأنه ردع التوحش الإسرائيلي. فقد ترك الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة يخوض وحده سلسلة حروب في مواجهة إسرائيل، لم تنقطع منذ عام 2008، كان آخرها معركة “سيف القدس” التي جرت خلال العام الماضي. ورغم صموده البطولي في هذه الموجهات، إلا أن إسرائيل ما تزال تواصل ارتكاب جرائمها المعتادة: تهويد القدس، وترحيل المواطنين الفلسطينيين منها، والاعتداء على المصلين في المسجد الأقصى، دون أن تهتز الدول المطبعة حديثًا أو تهدد حتى بسحب سفرائها من إسرائيل أو بوقف مشروعات التطبيع المتواصلة معها في مختلف المجالات.

نخلص مما تقدم إلى أن النظام الاقليمي العربي ظل متماسكًا طوال مرحلة المواجهة المسلحة مع إسرائيل، ولم يبدأ في الانهيار تدريجيًّا إلا منذ زيارة السادات للقدس واستسلام الدول العربية الأخرى تباعًا، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، لأوهام التسوية السياسية. وأظن أنه آن الأوان، خاصة بعد أن أصبح اليمين الفاشي العنصري هو ضابط الإيقاع في معادلة السياسة الإسرائيلية، كي تدرك الدول العربية أن إسرائيل لم ولن تكون أبدًا جادة في موضوع البحث عن تسوية حقيقية للصراع العربي الإسرائيلي تستجيب للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة، وأن تقتنع بأن “العملية السياسية” التي دشنها كيسنجر في أعقاب حرب 73 لم تكن في الواقع سوى أداة لتفكيك النظام العربي قطعة قطعة، وهو ما يفسر إصرار إسرائيل على إبرام معاهدات منفردة مع كل دولة عربية على حدة، وليس مع الدول العربية مجتمعة. وأعتقد أنه آن الأوان أيضًا كي تدرك الدول العربية أن إنقاذ النظام الإقليمي العربي من الهوة السحيقة التي وقع فيها يبدأ بإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية وتوحيد الصفوف العربية والفلسطينية في مواجهة إسرائيل.