الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الهوية القومية والمواطنة الدستورية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

مقولة “المواطنة الدستورية” برزت في الكتابات السياسية المتأخرة للفيلسوف الألماني العجوز يورغن هابرماس في سياق الجدل بين المؤرخين الألمان في الثمانينيات حول موضوع الهوية القومية الجرمانية.
لقد تمحور هذا الجدل حول الهوية التاريخية الممتدة للأمة الألمانية باعتبارها تتوفر على تقليد ثقافي حي، بما يطرح مشكل العهد النازي الذي خلف جرحًا حادًا في التاريخ الألماني المعاصر وألقى ظلالًا كثيفة من الشك حول أي تصور قومي للأمة الألمانية من منظور النسق الوطني المكتمل.

لقد اعتبر هابرماس أن مفهوم الأمة القومي لا يتناسب مع التصور الليبرالي الحديث للهوية السياسية والمدنية، مفضلًا محددات الكونية الإنسانية على النزعات الخصوصية التي يعتبر أنها تحيل بالضرورة إلى العنصرية والانغلاق.
فالمجتمع الليبرالي تعددي بطبيعته، لا يمكن أن يتأسس على تقليد ثقافي أو عقدي مشترك، ومن ثم فإن الهوية العرقية لا معنى لها في مثل هذا المجتمع المتنوع الذي تقوم وحدته على منظومة الحقوق والحريات الفردية. وهكذا يظهر أن ما نعتقده ثوابت قيمية ليست سوى خيارات للعيش من بين خيارات أخرى يعتمدها الفرد بحرية ودون إكراه. ومن هنا ندرك أن المجتمع الليبرالي يستوعب أنواعًا عديدة متعايشة من الهويات الجماعية التي تتغذى من تقاليد ثقافية شتى. ولذا؛ فإن المسؤولية الإدماجية للدولة لا يمكن أن تستند لتقليد ثقافي قومي، بما يعني أن البديل الوحيد المتاح لها هو صياغة الضمير الأخلاقي في اتجاه كوني. من هذا المنظور، يرى هابرماس أن المفهوم الجديد للهوية لا بد أن يكون ما بعد قومي، وعليه أن يتجسد في ما أطلق عليه “المواطنة الدستورية”.

إن هذه الهوية ما بعد الوطنية، ترفض النكوص إلى المعايير ما قبل سياسية مثل اللغة، والثقافة والتاريخ، وبالتالي تتأسس على مشروع سياسي يرى أن المجال العمومي يقوم على المبادئ الكونية لحقوق الإنسان ومفهوم دولة القانون.

لقد انتقدت أطروحة هابرماس حول “المواطنة الدستورية”، فرأى البعض أنها عاجزة عن التعبير عن تصور حقيقي للهوية الجماعية، واعتبر آخرون أنها لا تتناسب مع التعددية الجذرية العميقة للمجتمعات الليبرالية لكونها تضع سقفًا مسبقًا للتنوع السياسي القائم في هذه المجتمعات.

بيد أن هابرماس -كما بيّن في نصوص عديدة- لا يعني بمفهومه عن المواطنة الدستورية تعويض الاعتبارات القومية الخصوصية بمفهوم كوني وصوري للقيم والحقوق الإنسانية الكونية، بل إن المحددات الليبرالية ما بعد قومية لا تكون فاعلة ومؤثرة إلا إذا استوعبتها الثقافة المحلية وأحالتها إلى مكون جذري في وعيها الوطني ونظمها المؤسسية الحية القائمة. المقصود هنا هو “كونية متعينة” في أشكال عيش تاريخية، حتى لو كانت القيم الإنسانية الحرة هي الإطار المعياري الناظم لطبيعة التقليد الثقافي الذي تتنزل فيه هذه الخيارات السياسية. فما يرفضه هابرماس هو تحويل هذه الهويات الجماعية الخصوصية الطبيعية إلى إطار للوعي الوطني، ما دامت المواطنة في المجتمعات الليبرالية ترتكز على الحقوق والقوانين لا إلى التاريخ المشترك والثقافة الجامعة.

من جهة أخرى، يعترف هابرماس بأن مفهومه للمواطنة الدستورية يفترض تناغم أنماط الوجود الاجتماعي مع المبادئ الحقوقية والقانونية الكونية، بما لا نجده في كل المجتمعات والثقافات. فحين تكون بعض المجموعات الفاعلة رافضة لأسباب ثقافية للقيم الليبرالية لا يمكن الحديث عن مفهوم حقيقي للمواطنة الدستورية، حتى لو كانت هذه القيم قابلة للتجسد في أنماط مجتمعية وثقافية عديدة ومتباينة كما هو جلي في تنوع النموذج الليبرالية الغربية.

رغم هذه التوضيحات، لا مناص من الاعتراف بأن هابرماس يميز بقوة بين الهوية والمواطنة، وفق التفريق الأساسي في فلسفته بين الإدماج الأخلاقي الذي تقوم به المعتقدات والثقافات في مجتمع معين والإدماج المدني الذي تقوم به الدولة في المجتمع الليبرالي الحديث. و إذا كان من المقبول والمبرر اعتماد تصور ليبرالي للهوية المدنية المشتركة للمواطنين في دولة حديثة، إلا أن التصور الهابرماسي للمواطنة الدستورية يقوم على إشكالية نظرية غير محسومة: هل تكون القيم الليبرالية التعددية مرتكزًا كافيًا للمواطنة المدنية بما يعني توسيع إطار هذه المواطنة إلى حدود مفتوحة بحيث تستوعب دائرة التعاقد الكوني بمنأى عن التخوم التي رسمتها المنظومة الدولية، بما يقتضي من ثم تجاوز نموذج الدولة الوطنية نفسه الذي قام تاريخيًا على اعتبارات الهوية القومية الخصوصية؟

لا يبدو أن هابرماس حسم هذا الإشكال، ففي بعض نصوصه يتحدث عن الدولة ما بعد القومية ويحتفي بها كحالة سياسية جديدة أفرزتها حركية العولمة، داعيًا الدول الأوروبية إلى بناء حقل جديد للمواطنة وفق مقتضيات الاندماج القاري، لكنه من جهة أخرى يتشبث بمعايير الديمقراطية التواصلية التي ترتكز على مفهوم قومي للمشاركة لا يمكن بطبيعته أن يتجاوز الإطار الوطني الضيق.

رغم هذا الاستدراك الجوهري، تظل أطروحة هابرماس حول المواطنة الدستورية هامة من أجل إعادة بناء مفهوم الهوية في الفكر القومي العربي المعاصر. وكما بيّنا في مناسبات سابقة، لقد تأثر هذه الفكر في نشأته بالتجربة الألمانية في فهمها للهوية بالرجوع لما اعتبره هابرماس مكونات ما قبل سياسية مثل التاريخ والثقافة واللغة، ومن ثم تم إهمال المواطنة المدنية الكونية التي هي التعبير الحديث عن دائرة الانتماء المشترك.

لقد أدى هذا الإهمال إلى نتيجتين سلبيتين، هما من جهة تبرير التصور الاستبدادي للاندماج القومي باعتبار أن شرعيته سابقة على طبيعة النظام السياسي المعتمد ما دامت تحقق هدفًا تاريخيًا مطلقًا وبديهيًا، ومن جهة أخرى حصر الإدماج السياسي في المجموعة القومية في مجتمعات متنوعة البناء العرقي والطائفي، لا يمكن أن تلتئم إلا على أساس منظومة الحقوق والحريات المدنية.

حاصل الأمر، أنه لا تعارض بين الهوية القومية التي هي أرضية انتماء تاريخي، وثقافي وشعوري، ومحددات المواطنة الدستورية التي هي الإطار السياسي الجديد الناظم للعيش المشترك بين الأفراد والمجموعات في سياق تحكمه قيم الحرية، والتعددية والتسامح.