الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الهوية المتخيلة والوعي القومي
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

بنديكت أندرسون مؤرخ وعالم اجتماع أيرلندي (توفي سنة 2015)، بلور نظرية هامة حول النزعة القومية بالتركيز على بلدان جنوب آسيا في كتابه المتميز “المجموعات المتخيلة: تأملات حول أصل وانتشار القومية” (Imagined Commuinities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism).

في هذا الكتاب الذي غير نوعيًا طريقة التفكير حول الهويات القومية من منظور علم الاجتماع السياسي، يذهب المؤلف إلى أن مفهوم الأمة لا يعبر عن رابطة بديهية أو طبيعية، بل عن حالة مجتمعية متخيلة تستند إلى معطيات تاريخية وثقافية يعاد إنتاجها والتصرف فيها وفق متطلبات الاندماج العضوي المقصود.

في أطروحته، ينطلق أندرسون من فكرة عالم الاجتماع البريطاني الشهير “أرنست غلنر” في قوله “إن النزعة القومية ليست نتاج يقظة وعي الأمم، بل هي التي تخترع الأمم حيث لا توجد أصلًا”. هذه المقولة تعني بوضوح أن الهوية القومية لا تصدر عن محددات موضوعية جاهزة، بل إن الأيديولوجيا القومية هي التي تصنع المجموعة السياسية التي يفترض أنها تجسد الوعي القومي.

وهكذا يخلص أندرسون إلى أن الأمة حالة متخيلة تنغرس في بنية اجتماعية من أجل تغييرها، فالنزعة القومية من هذا المنظور هي إطار تصوري وطريقة وجود في العالم.

للأمة أربعة خصائص كبرى حسب أندرسون هي: المجال الإقليمي بمحدداته الثقافية الخاصة التي تميزه عن باقي العالم، الطابع السيادي للتحكم في الإقليم ضمن إطار نظام الدولة، واشتراك الأفراد المنتمين للمجموعة في المقومات الانتمائية المتخيلة، والطابع التمثلي المجرد الذي لا يمكن أن يضبط عينيًا إذ ليس بمقدور أي فرد التعرف على كافة الأشخاص الذين تجمعهم الأمة الواحدة.
من الناحية التاريخية، يبين اندرسون أن النزعة القومية ظاهرة حديثة تبلورت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بالتزامن مع انهيار نمطين من المجموعات، هما المجموعات الدينية والمجموعات السلالية.

السمة الغالبة على المجموعات الدينية هي كونها شمولية لا حدود لها، تعتمد معجمًا مقدسًا لا تتقنه سوى أقلية من السكان بما ينجم عنه تمييز ثابت بين العلماء والعامة. وكذا شأن المجموعات السلالية التي تستند على نفس المرجعية المقدسة في تشريع السلطة وتقسيم المجتمع إلى نبلاء وعامة. في النظام السياسي القديم، كانت السلطة مطلقة وقوية، والدولة تتحدد بمركزها على حساب أطرافها القصية. في مثل هذه التجمعات القائمة على المقدس، لا معنى للتغيير والتقدم، فالزمن أزلي ثابت لا يتحرك.

ومع انهيار التجمعات الدينية والسلالية، انحسرت التصورات والتمثلات التي كانت مرتبطة بها، مثل اللغات المقدسة (بما يفسر انتشار اللغات الوطنية المستخدمة شعبيًا)، والنظام التراتبي الطبقي (مع شيوع فكرة المساواة بين البشر)، والمفهوم الجامد للزمن (الذي استبدل بالتصور الفارغ والمتجانس).

في العصور الحديثة، إذن تحللت الإمبراطوريات وبرزت الدول القومية المحدودة، وكان للديناميكية الرأسمالية دور أساسي في هذا التحول الجوهري. ومن المعروف ان هذه الديناميكية من آثار الثورة الصناعية، التي دفعت الظاهرة القومية من خلال تطور المطبعة ووسائل النقل ذات المسافة الطويلة وخصوصًا السفن الشراعية. وقد ارتبطت بهذه الثورة الصناعية الظاهرة الاستعمارية بما واكبها من هجرات كثيفة بين القارات، وما أفضت إليه من أشكال الوعي القومي الجديد على أساس الهوية المجردة لا الارتباط المادي المباشر بالأرض.

وهكذا، يخلص أندرسون إلى أن الحالة القومية الحديثة كانت نتاج عملية الوعي السياسي والأيديولوجي الناتجة عن التغيرات المجتمعية الكبرى المتولدة عن الثورة الصناعية الرأسمالية وما أفضت إليه من أطر تصورية جديدة في إدارة الأرض والسكان وتشكيل الثقافة الوطنية على أساس التراث المحلي واللغة العامة المتداولة.

هل تساعدنا أطروحة أندرسون في فهم وإدراك وتقويم التجربة القومية العربية؟
تتعين الإشارة هنا إلى أن التصور الذي انطلق منه سراة الفكر العروبي هو المفهوم الجرماني الرومانسي للأمة بصفتها حالة ثقافية موضوعية يعبر عنها وعي سياسي تلقائي، بما يعني أن الوحدة العربية هي في آن واحد الأصل المرجعي للوجود العربي والمآل الحتمي لهذا الوجود.

في السنوات الأخيرة، ومع استفحال أزمة الوعي القومي العربي برزت أطروحتان أساسيتان في الفكر العربي، ذهبت إحداهما إلى التشكيك في سردية الوحدة التاريخية الأصلية للأمة مع تبيان جذور الوطنيات المحلية، وذهبت الأخرى إلى التشكيك في ميكانيكية البناء السياسي الموحد على أساس التجانس الثقافي واللغوي بالانطلاق من عدة تجارب عالمية ملموسة مثل الحالة اللاتينية الأمريكية.
وهكذا برزت توجهات فكرية جديدة في الساحة الثقافية العربية تتعلق بموضوع الهوية والوعي القومي، في سياقات ثلاثة كبرى هي: إعادة الاعتبار للدولة الوطنية بصفتها تعبيرًا عن هوية خصوصية لها مقوماتها الذاتية وليست مجرد حالة قطرية غير شرعية، وإعادة تصور الهدف الاندماجي الوحدوي بالانتقال من فكرة التوحيد القسري الشمولي إلى فكرة الاندماج المرن الذي يراعي الخصوصيات الوطنية والإقليمية، وإعادة بناء الوعي القومي باستيعاب قيم الديمقراطية والتعددية التي هي جوهر الحداثة والتنوير.

في سنة 2001، شاركت في ندوة فكرية كبرى نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في مدينة فاس المغربية حول وثيقة “المشروع النهضوي العربي الجديد” التي أعدها عدد من المفكرين العرب البارزين. الأهداف الستة لهذا المشروع هي: الوحدة في مواجهة التجزئة، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد، والتنمية المستقلة في مواجهة النمو المشوه والتبعية، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال، والاستقلال الوطني والقومي في مواجهة الهيمنة الأجنبية، والتجدد الحضاري في مواجهة التغريب.

لا غبار على هذه الأهداف الكبرى بطبيعة الحال، لكن لا بد من الإقرار أن الفكر القومي لم يعمل على نقلها من مستوى التطلع والطموح إلى مستوى التجسيد والفعل. وقد تكون الثغرة الكبرى التي منعت هذا الانتقال الضروري هي ضحالة العمل النظري والفكري على متطلبات الوعي القومي نفسه الذي ظل طيلة عقود طويلة من مسار الأيديولوجيا العروبية بمنأى عن الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالتنوير والتحديث وهي في عمقها السياق النظري والفلسفي للفكرة القومية نفسها في دلالاتها الراهنة.