لن ندخل في النقاش النظري المعقد حول تشكل الهوية في الفكر العربي الحديث في ارتباطها بموضوع الأمة، باعتبار أن العديد من المؤرخين والباحثين الاجتماعيين يرى أن بروز ذاتية قومية واعية هو نتاج العصور الحديثة، ولا يمكن أن يرجع إلى جذور تاريخية بعيدة حتى لو كانت العروبة الثقافية حقيقة موضوعية لا سبيل لإنكارها.
ربما تكون لنا عودة إلى الموضوع، لكن قبل الوقوف عنده لا بد أن نتعرض لمسار انبثاق الهوية في الفكر الغربي الحديث، بما يقتضي منا الرجوع إلى العمل الفلسفي المحوري الذي خصصه الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور للإشكالية، أعني كتابه الضخم “منابع الذات “.
في هذا الكتاب المتميز، يوضح تايلور أن الهوية الحديثة تتميز بثلاث سمات كبرى هي:
- الشعور بالجوانية، أي بالعمق الداخلي للفرد. وهي فكرة لها تاريخ طويل يمتد إلى رجل الدين المسيحي المعروف، القديس أوغسطين وبلغت مداها في فلسفة رنيه ديكارت ومعاصريه. لا يمكن فصل هذا الشعور بمسار نزع الطابع السحري عن العالم أي نهاية الكوسموس القديم بصفته كونًا متعاليًا يفرض نفسه على الإنسان، بما يفتح للذات البشرية أفقًا مرجعيًا جديدًا تؤكد من داخله على استقلاليتها، وتفردها وفاعليتها الأخلاقية والمعيارية. لقد عرفت هذه الديناميكية لدى بعض المفكرين الغربيين الآخرين ببراديغم الذاتية في مقابل السلطة الأنطولوجية للوجود، واعتبرت المحدد الأساسي لأفكار الحداثة والتنوير، وإن كانت طرحت منذ نهاية القرن التاسع عشر أسئلة جوهرية تتعلق بمطالب الاعتراف، والتواصل والتداخل بين الذوات والاختلاف وهي الإشكالات المتشعبة التي طغت على الفلسفات والعلوم الإنسانية المعاصرة.
- الانتقال من مفهوم “الحياة الطيبة” إلى “الحياة المنتجة” التي تتمحور حولها النظم الاجتماعية للأسرة، والعمل، والاقتصاد والسياسة. يرجع تايلور هذا المسار إلى حقبة التنوير التي قضت على الأشكال “العليا” من الحياة مثل نمط عيش النبلاء، والحرب، والمدنية المناضلة والتأمل والزهد البطولي، وأكدت في المقابل على قيم الإنتاج والعمل ومظاهر النشاط اليومي الاعتيادي. ولعل النتيجة الكبرى لهذا التحول هي التركيز على تجربة الإنسان المستقلة، واحترام كرامته، وحقوقه وحماية مصالحه الشخصية.
- إعادة الاعتبار للطبيعة والنظام الطبيعي وفق أحد الثوابت الرومانسية في النظرة الحديثة للعالم، توطد نوازع الذاتية، والتخيل، والإبداع والاندهاش وتؤسس لاخلاقية الضمير الباطني الذي يمتثل لنداء الطبيعة في النفس بدلًا من الانقياد للسلط القهرية الخارجية.
وعلى عكس التقليد الليبرالي الذي يعتبر الفيلسوف الأمريكي جون رولز أهم ممثليه المعاصرين، يرى رولز أن فكرة الهوية تقتضي ضرورة أسبقية الخير على العدل (بمفهومه القانوني الإجرائي)، ذلك أن المقومات المعيارية والتصورية الشمولية هي المرتكزات العميقة للشخصية الذاتية ولا يمكن أن تتخلص منها.
وهكذا؛ ينتهي تايلور إلى أن ما يميز الحداثة ليس الحياد القيمي كما يرى الليبراليون، وإنما تعدد المصادر الأخلاقية، التي يمكن تصنيفها في ثلاث مرجعيات كبرى هي: المصادر اللاهوتية (الدينية)، والمصادر العقلانية والمصادر التعبيرية. الأمر هنا يتعلق بمصادر متمايزة، تتصادم أحيانًا وتتشابك، وتطرح للإنسان المعاصر إشكالات سلوكية عملية دائمة.
إن أهمية أطروحة تايلور تكمن بالنسبة لنا في كونها تخلصت من وهم الذاتية الفردية المعزولة التي كرستها الفلسفات الحديثة، أي اختزال الإنسان في منزلة المواطن (الذرة القانونية) أو في منزلة العامل المنتج.
ما ينطلق منه هذا التصور هو تخويل الإنسان إرادة مطلقة كاملة الحرية في الوقت الذي لا يمكنه أن يمارس هذه الحرية الاصلية إلا لنفيها والتنازل عنها سواء من خلال الإذعان للسلطة السيادية الشاملة للدولة التي هي مصدر التشريعات والقوانين والنظم الاجتماعية، أو من خلال القبول الاضطراري للنسق الوضعي المعقلن كما يتجسد في الممارسة الإنتاجية ونموذج الشغل الصناعي.
لقد كانت الفيلسوفة الألمانية الأمريكية حنة أرندت، نبهت إلى هذه الثنائية في تتبعها للتصور الذاتي الداخلي للإرادة الذي لا مضمون له سوى العجز عن ممارسة الفعل الحر، وفي ملاحظتها انتقال المجتمعات الحديثة من محورية الفعل بما هو نشاط إبداعي عمومي إلى الشغل في دلالته الإنتاجية النفعية الضيقة.
لقد أفضى هذا التصور إلى إلغاء السؤال القيمي الجوهري المتعلق بالخير الأسمى الذي كان هو الإشكال الفلسفي الأصلي منذ أفلاطون، واستبدل هذا السؤال بالمعايير القانونية الاقتصادية في صياغتها الوضعية، أي من منظور فكرة العلومية المتفردة بالحقيقة الموضوعية.
وإذا كان البعض يعتقد أن الدين هو وحده ضحية هذا التأسيس الوضعي (إقصاؤه من المجال العمومي)، فالحقيقة الراسخة هي أن كل أصناف التقويم المعياري الأخرى تعرضت للضربة ذاتها، وبصفة خاصة الأخلاق والسياسة.
بخصوص الأخلاق التي تهمنا هنا، حاول كانط بناء منظومة سلوكية على أساس سلطة الضمير المستقل والأوامر العقلانية غير المشروطة، وإن اضطر إلى إعادة الاعتبار للمسلمات الميتافيزيقية الرئيسية لضمان فاعلية النوازع الأخلاقية. إلا أن اختزال الأخلاق في المدونة القانونية الصورية ولد إشكالين مضاعفين: يتعلق أولهما بالفاعلية المعيارية لنظرية الشرعية القاصرة عن بلوغ معنى العدالة (وهو الخلل الذي حاول جون رولز سده)، ويتعلق ثانيهما بعجز العقلانية القانونية عن حل الإشكالات الأخلاقية الجديدة التي لا يمكن اختزالها في العقود والالتزامات المشتركة (وهو الخلل الذي نبه إليه تايلور وآخرون).
خلاصة الأمر، أن سؤال الهوية في سياقاته الراهنة يفرض الخروج من ضيق براديغم الذاتية الذي كرس المقاربة الفردية الجوانية للشخصية، في انفصال كامل عن التقليد العقدي الثقافي والانتماءات الاجتماعية، بما يحول الإنسان إلى ذرة معزولة لا يتم الاعتراف بحقوقها إلا من حيث هي ذات قانونية أو عاملة. لقد طرحت الفلسفة المعاصرة منذ هيغل سؤال الاعتراف المتولد عن تعايش الذاتيات الحرة المستقلة، وانساقت في ضوء المنعرج اللغوي إلى المقاربات التواصلية التداولية التي تعطي الأولوية لسياقات النقاش العمومي والتفاعل المعقد بين الثقافات والقيم، ضمن مقتضيات الكونية التي تعترف بالغيرية، والتعدد والاختلاف.