ديفيد غودهارت إعلامي وكاتب بريطاني معروف، نشر قبل سنوات كتابًا هامًا تناول فيه التصدعات الراهنة للمجتمعات الأوروبية الليبرالية وصعود النزعات الشعبوية في جل الدول الغربية (The road to somewhere: the populist revolt and the future of politics).
في هذا الكتاب، يبين المؤلف أن المجتمعات الغربية تعرف منذ الثمانينيات تصدعًا متزايدًا بين اتجاهين متمايزين عمقت الهوة بينهما العولمة الاقتصادية وحركية الهجرة الكثيفة من الجنوب: أولئك الذين لا جذور لهم ولا موقع ثابت ينحدرون منه anywhere ، وأولئك المتشبثين بأصولهم وهوياتهم somewhere.
الفئة الأولى هي المستفيدة من ديناميكية العولمة، أفرادها لا يشعرون بالانتماء لأي جهة، ولا يقيمون شأنًا للحدود، يتحركون في أوروبا دون تأشيرة دخول ويستخدمون التقنيات الرقمية لغة جديدة، ويحتفون بالهجرة بصفتها تجسيدًا لتنوع المجتمعات الثري والناجع.
إلا أن هذه الفئة لا تشكل سوى ربع سكان المجتمعات الليبرالية في مقابل نصف هذه المجتمعات الذي يرى أن العولمة كانت وبالًا عليه وخطرًا على مصالحه.
الأمر هنا يتعلق بجماعة متشبثة بأوطانها وهوياتها، ترى أن التقنيات الرقمية قد قلصت مهنها وقضت على وظائفها، وأن الهجرة الخارجية غيرت تركيبة أحيائها ومناطقها.
الفئة الثانية يسكن أفرادها عادة قرب عائلاتهم، بينما يسكن من لا هوية لهم قرب المدن الجامعية التي درسوا فيها قبل أن يختاروا الموقع الذي يتناسب مع تكوينهم وكفاءتهم على طول العالم. المنتمون لا يختارون بأنفسهم مكان إقامتهم فهم مضطرون للبقاء في الحدود المكانية الموروثة، بينما الآخرون يعتبرون المعمورة بكاملها وطنًا لهم.
يذهب غودهارت إلى أن هذا التصدع وإن كان اقتصاديًا، إلا أنه أيضًا ثقافي، يعكس خارطة قبلية جديدة أي الشعور بالانتماء والهوية، بما ينعكس عمليًا في المنافسات الانتخابية العديدة التي عرفتها الدول الليبرالية الغربية التي شهدت في الغالب صعود الحركات الشعبوية الحاملة شعار الهوية والانتماء.
إن هذا الصعود هو أثر مباشر للشعور العارم لدى الفئات المنتمية بانعدام الأمن الاقتصادي والثقافي معًا، ومن هنا أهمية الأمن والتضامن والهوية في الخطاب الشعبوي الحالي الذي يحمّل النخب العليا مسؤولية الكساد الاقتصادي وتراجع الدخل الناتجين عن العولمة التي قوضت المصانع، وشجعت الهجرة ودمرت الرأسمال الوطني. النتيجة الكبرى لهذا الاتجاه هي من هذا المنظور القضاء على نمط العيش التقليدي إلى حد أن يصبح المواطنون الأصليون غرباء أو أقلية في بلادهم.
الأفراد غير المنتمين يغلبون منطق الاستحقاق، والاستقلالية الذاتية، والكفاءة والتكيف والإبداع، ويضعون الحرية في مقام سابق على الأمن، والمسؤولية الفردية قبل التضامن. ومن هنا ندرك أن أحزاب اليسار والتشكيلات الليبرالية التقدمية تركت الإشكالات الاجتماعية وغدت تركز على مطالب الحقوق والدفاع عن الهويات الثقافية الخصوصية وموضوعات البيئة. إلا أن غودهارت يرى أن ليبرالية الاستحقاق تطرح إشكالات عويصة، باعتبار أنها كرست التصور النخبوي الوراثي المغلق بدلًا من الهوية الحرة المفتوحة، وفرضت نمطًا من الثقافة الأحادية المتجانسة بدلًا من دفع التنوع الثقافي الحقيقي، فضلًا عن كونها قطعت أصلها بقاعدتها الشعبية التي هي المرجعية العميقة للمنظومة الديمقراطية.
ليست ثنائية المحافظة والتقدم جديدة في المجتمعات الغربية، لكن هذه الثنائية تحولت إلى مواجهة حقيقية نتيجة للثورة التقنية الاتصالية الراهنة التي قضت على سلطة الإعلام التقليدي لصالح المواقع الاجتماعية التي لا تخضع لأي تحكم أو تصفية مسبقة، ووصل التصدع إلى الطبقة الوسطى التي كانت منذ القرن التاسع عشر عماد استقرار النظام الديمقراطي في الغرب.
وهكذا يظهر لنا أن التصويت الشعبوي يتغذى أساسًا من حاجيات الانتماء الجديدة، بما ينجم عنه تشجيع نمط الديمقراطية غير الليبرالية التي لا تقيم شأنًا للقواعد المؤسسية ولا لمعايير الشرعية الدولية. أما الأفراد غير المنتمين، فيفضلون نموذج الديمقراطية الليبرالية، ويعتمدون حقوق الأقليات واحترام توازن السلطات. الفئة الأولى تميل لسياسات الحماية والانكفاء، بينما تدافع الفئة الثانية عن النظام الليبرالي التعددي والتبادل التجاري الحر.
في السابق، كان الصراع سياسيًا اقتصاديًا، وكانت حكومات الوسط هي التي تضمن استقرار التجارب الديمقراطية. أما اليوم، فقد غدا الصراع ثقافيًا مجتمعيًا، يتعلق بالقيم والمعايير السلوكية. ومن هنا صعوبة إدارته وحسمه لكونه يصل إلى مستوى المرجعية العميقة للعقل السياسي في ذاته.
لا شك في أن حديث غودهارت مفيد لفهم الوضع السياسي للبلدان الليبرالية الغربية التي تعيش بالفعل صدامًا حادًا بين التيار الليبرالي العولمي والاتجاهات الشعبوية الانكفائية التي وصلت السلطة في العديد من الدول، آخرها الولايات المتحدة الأمريكية التي استعاد فيها الرئيس السابق دونالد ترامب مقاليد الحكم في مواجهة صوت اليسار الليبرالي كاملا هاريس.
إلا أن لهذا النقاش أبعادًا مماثلة في بلداننا العربية الإسلامية التي تمر في غالبها بمسارات الانتقال الديمقراطي في ظل أزمات سياسية ومجتمعية خانقة. إن هذا الصدام السياسي والأيديولوجي يتركز اليوم حول موضوعات الهوية والقيم أكثر من مسائل الحقوق والمطالب الاجتماعية. ظهر هذا التصدع في التجارب الانتخابية التعددية التي عرفتها البلدان العربية في السنوات الأخيرة ببروز قطب انتمائي واسع مدافع عن الخصوصيات القيمية والثقافية وإن كان شديد التنافر داخليًا يجمع بين صوت الأيديولوجيات الدينية، والتطرف الديني والنزعة القومية العروبية في أشكالها المتعددة والجماعات القبلية في دلالتها الضيقة، وقطب ليبرالي حداثي يتركز في النخب المندمجة عالميًا وفي البيروقراطيات الوطنية التي تشكلت عبر تجارب الحكم والتفاعل مع الخارج.
المشكل الذي طرح هنا هو غياب تقاليد وتوازنات مؤسسية تحمي النظام الديمقراطي الليبرالي في سياق ما تزال السلطوية فيه قائمة في صلب القاعدة الاجتماعية، بما يحول الحراك السياسي الحر إلى صراع جوهري حول المشروعية و المرجعية العميقة للنسق السياسي في غياب توافقات إجماعية تتأسس عليها أرضية الحكم والقرار. خلاصة الأمر أن معضلة الانتماء في السياق العربي الإسلامي ليست مجرد وجه من وجوه الصراع السياسي القائم، بل هي جوهر وعمق هذا الصراع.