الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

تأملات في مفهوم “قومية القضية الفلسطينية” بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

 ما زال الخطاب العربي الرسمي، ونقصد به هنا الخطاب السياسي والإعلامي للحكومات العربية، يحرص على التعبير عن التزامه بالقضية الفلسطينية باستخدام مصطلحات رنانة فقدت مضمونها بمرور الوقت. فتارة يصف القضية الفلسطينية بأنها قضية “قومية”، وتارة أخرى بأنها قضية العرب “الأولى” أو “المركزية”.. إلخ. وقد استمر الحال على هذا المنوال حتى بعد ذهاب بعض الحكومات العربية بعيدًا في تطبيع علاقاتها بالحكومة الإسرائيلية، لدرجة أن بعض السفارات العربية في تل أبيب أقدمت مؤخرًا على توجيه الدعوة إلى أحد أكثر السياسيين الإسرائيليين تطرفًا وعنصرية في إسرائيل، وهو إيتمار بن غفير المرشح لشغل منصب وزير الداخلية في حكومة نتانياهو القادمة، لحضور الاحتفال بعيدها الوطني. فمتى وكيف شقت هذه اللغة غير المنضبطة طريقها إلى الخطاب الرسمي العربي، وما الذي يدعو الحكومات العربية إلى تبني سياسة ذات وجهين تجاه القضية الفلسطينية، أحدهما ظاهر يتوجه بالخطاب إلى رأي عام عربي تدرك حجم ارتباطه العضوي بهذه القضية، والآخر مضمر يتوجه بالخطاب إلى الحكومة الإسرائيلية والرأي العام الغربي؟ أظن أن الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج منا إلى وقفة لتتبع تطور موقف الحكومات العربية من القضية الفلسطينية، والأسباب التي أدت إلى ظهور فجوة راحت تتسع تَدْرِيجِيًّا بين الموقفين الشعبي والرسمي تجاه هذه القضية المحورية.

            “قومية” القضية الفلسطينية تعني أنها قضية لا تخص الشعب الفلسطيني وحده وإنما تهم الشعوب العربية كلها. وينبع هذا الاهتمام من إدراك عميق لدى الشعوب العربية بأن المشروع الصهيوني يشكل تهديدًا فِعْلِيًّا لسلامة وأمن الأمة ككل، وأن هدفه النهائي لا يقتصر على ابتلاع كامل أرض فلسطين التاريخية، وإنما يسعى في الوقت نفسه لإقامة دولة يهودية كبرى تمتد من النيل إلى الفرات. وتأسيسًا على هذا الإدراك العميق لطبيعة المشروع الصهيوني، لم يتردد النظام العربي الرسمي، ممثلًا في جامعة الدول العربية، في التبني الكامل لطموحات الشعب الفلسطيني في الاستقلال والالتحاق بركب الشعوب العربية الأخرى، بدليل: 1- إفراد ملحق خاص بفلسطين في ميثاق الجامعة الصادر عام 1945 2- رفض مشروع قرار تقسيم فلسطين حين عرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 3-خوض الحرب عام 1948 للحيلولة دون قيام دولة يهودية على أي جزء من أرض الشعب الفلسطيني الذي حرم عنوة من ممارسة حقه في تقرير مصيره. 4- إقدام مجلس جامعة الدول العربية عام 1950، بعد هزيمة الدول العربية في حرب 48 واضطرارها لعقد اتفاقيات هدنة مع إسرائيل عام 1949، على اتخاذ قرار بمقاطعة إسرائيل في جميع المجالات وتحريم إجراء أي اتصالات أو إقامة علاقات من أي نوع أو عقد أي صلح منفرد معها. غير أن مفهوم “قومية القضية الفلسطينية” بدأ يأخذ منحى مغايرًا. فقبل هزيمة 48 كان اهتمام الحكومات العربية يتمحور حول البعد الإيجابي لهذا المفهوم، المتعلق بتمكين الشعب الفلسطيني من استرداد حقوقه المغتصبة، أما بعد الهزيمة فقد بدأ هذا الاهتمام يتمحور حول بعده السلبي، المتعلق بمقاطعة إسرائيل باعتبارها دولة مغتصبة لحقوق شعب عربي.

 

التزام الدول العربية بمقاطعة إسرائيل بعد هزيمة 48 لم يكن كافيًا للتعبير عن سلوك “قومي” تجاه القضية الفلسطينية. فتعامل الدول العربية مع ما تبقى من الأرض الفلسطينية، بعد أن سيطرت إسرائيل على 78% منها، ومع ما تبقى من شعب فلسطين، الذي أصبح 20% منه يعيش داخل فلسطين المحتلة، لم يعكس أبدًا أي نوع من الالتزام القومي. ولأن مصر أقدمت على السيطرة إِدَارِيًّا على قطاع غزة، دون أن تضمه، بينما أقدمت إمارة شرق الأردن على دمج الضفة الغربية فيها وإعلان قيام مملكة أردنية هاشمية، فقد بدأت تظهر فجوة بين شعار “قومية القضية الفلسطينية” الذي ظل يرفع لدغدغة مشاعر الرأي العام العربي، وبين سياسات رسمية عربية تجاه الشعب الفلسطيني كانت في جوهرها سياسات قطرية خالصة. بل إن هذه الفجوة راحت تتسع باطراد، حيث تعمدت الحكومات العربية إظهار مقاطعتها لإسرائيل وكأنه تعبير عن استمرار التزامها بشعار “قومية القضية الفلسطينية”، بينما جسدت ممارساتها الفعلية تجاه الشعب الفلسطيني، الموزع بين الضفة الغربية وقطاع غزة والعيش في المنافي، سياسات قطرية أدت إلى حرمانه من التعبير عن هويته الوطنية والحيلولة دون تمكينه من اختيار طريقه في النضال من أجل استرداد حقوقه المغتصبة، وفي غياب رؤية عربية موحدة لكيفية استعادة الحقوق الفلسطينية المغتصبة. ولأن الشعب الفلسطيني لم يكن في وضع يسمح له باختيار ممثليه الحقيقيين في المحافل الإقليمية والدولية، فقد ظهرت خلافات مستمرة بين الحكومات العربية حول من يمثله في هذه المحافل، بما في ذلك داخل جامعة الدول العربية نفسها. وحين تمت معالجة هذه المسألة، بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بقرار من مؤتمر القمة العربي عام 1964، بدت هذه المبادرة وقتها وكأنها خطوة على طريق بلورة استراتيجية عربية موحدة لا تكتفي بمقاطعة إسرائيل وإنما تسعى في الوقت نفسه للعمل على استرداد الحقوق الفلسطينية المغتصبة. غير أن هذا الوضع لم يستمر طويلًا، بل وتغير جَذْرِيًّا عقب حرب 1967 التي مني فيها العرب بهزيمة ساحقة مكنت إسرائيل من السيطرة على كامل أرض فلسطين التاريخية.

 

كان لحرب 67 تأثير عميق في الواقع على علاقة الحكومات العربية بالقضية الفلسطينية. فمعظم هذه الحكومات وافق بعد هذه الحرب على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، الذي يعترف صراحة “بحق إسرائيل في الوجود داخل حدود آمنة”، وبدأت غالبية الدول العربية، بما فيها مصر، تعمل تحت سقف “إزالة آثار العدوان”، ما يعني ضمنًا تخليها عن شعار “تحرير فلسطين من البحر إلى النهر”، وبعد حرب 73، اتخذ مؤتمر القمة العربي عام 1974 قرارًا يعترف فيه بمنظمة التحرير الفلسطينية “ممثلًا شَرْعِيًّا وحيدًا للشعب الفلسطيني”، وهو ما فسرته معظم الحكومات العربية على أنه يعني أن القضية الفلسطينية أصبحت منذ الآن فصاعدًا مسؤولية فلسطينية، بل واعتقدت معظم الدول العربية، خاصة المجاورة لإسرائيل، أنه أصبح بمقدورها من الآن فصاعدًا التحلل من عبء هذه القضية والتصرف حسب ما تمليه رؤيتها الخاصة لمصالحها الوطنية وحدها، كان هذا هو النهج الذي سلكه الرئيس السادات، حين قرر زيارة القدس عام 1977 ثم إبرام معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل عام 1979، وهو نفس النهج الذي سلكه الملك حسين، حين قرر عام 1988 “فك الارتباط” مع الضفة الغربية، ولاحقًا إبرام معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1994، وهو نفس النهج الذي سلكته منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، حين أقدمت على التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993. هكذا راح عقد النظام العربي ينفرط تَدْرِيجِيًّا، ومعه أصبح حديث الحكومات العربية عن “قومية القضية الفلسطينية” مجرد لغو لا معنى له.

حين قررت الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، في مؤتمر القمة المنعقد في بيروت عام 2002، أنها باتت مستعدة لإقامة علاقات طبيعية كاملة مع إسرائيل إذا أبدت الأخيرة استعدادها للانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، لم يكن ذلك تعبيرًا عن التزام “قومي” بالقضية الفلسطينية بقدر ما كان تعبيرًا عن حرص منظمة إقليمية على تسوية أزمة امتدت لعقود طويلة وحالت دون تحقيق الاستقرار في المنطقة برمتها. ولأن الحفاظ على هيبة هذه المنظمة كان يقتضي من الدول الأعضاء، على الأقل، الالتزام بالقرار الذي اتخذته ووافقت عليه بالإجماع، إلا أن التفريط الرسمي العربي في القضية الفلسطينية وصل إلى حد هرولة عدد كبير من الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل قبل أن توفي الأخيرة بالشروط المحددة في مبادرة بيروت العربية، منتهكة بذلك ليس روح المبادرة فحسب ولكن نصها أيضًا، ما ألحق ضرراً فادحًا ليس بالقضية الفلسطينية فحسب وإنما بالجامعة العربية نفسها.

يختلف موقف الشعوب العربية تجاه القضية الفلسطينية اختلافًا تامًا عن موقف الحكومات العربية. ففي كل مرة تتاح فيها أمام الشعوب العربية مناسبة أو فرصة للتعبير عن رأيها في هذه القضية أو في مسألة التطبيع مع إسرائيل، مثلما حدث مؤخرًا في مونديال قطر، تؤكد هذه الشعوب دائمًا، بما في ذلك شعوب الدول التي هرولت حكوماتها مؤخرًا للتطبيع مع الحكومة الإسرائيلية، إيمانها بالقضية وعمق كراهيتها لحكومة إسرائيل العنصرية، ورفضها للتطبيع معها، أيًا كانت الحجة أو الذريعة، ما يؤكد على أن الفجوة بين الحكومات العربية وشعوبها أصبحت كبيرة وتتسع باستمرار. وقد أصبح من الواضح تمامًا أن الخطاب الإعلامي الرسمي الموجه للرأي العام العربي، والذي يتحدث عن “قومية القضية الفلسطينية”، لم يعد يصدقه أحد، بل وأصبح مثيرًا للسخرية.

تخلي الحكومات العربية عن القضية الفلسطينية أضعف النظام العربي الرسمي نفسه وعجل بانهياره، وعلى هذه الحكومات أن تدرك أن إعادة ترميم النظام الإقليمي العربي لن تكون ممكنة إلا بإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية والالتزام بمساعدة الشعب الفلسطيني على تقرير مصيره والرفض التام للتطبيع مع إسرائيل، إلى أن تنسحب إسرائيل كُلِّيًّا من الأراضي العربية المحتلة وتقيم دولة فلسطينية كاملة الاستقلال وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 67 على الأقل.