الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

خطوة سعودية جديدة نحو التطبيع أم التسوية؟، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

منذ أيام قليلة، قررت المملكة العربية السعودية تعيين سفيرها في الأردن، نايف بن بندر السديري، سفيرًا فوق العادة مفوضًا غير مقيم لدى فلسطين وقنصلًا عامًا في مدينة القدس في الوقت نفسه، وقام السديري بالفعل بتسليم نسخة من أوراق اعتماده إلى مستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس للشئون الدبلوماسية. أثارت تلك الخطوة المفاجئة سيلًا من التعليقات المتضاربة. فبينما رأى فيها البعض دليلًا إضافيًا على أن الجهود التي تبذلها الإدارة الأمريكية الحالية لدفع السعودية نحو تطبيع علاقاتها مع إسرائيل توشك أن تؤتي ثمارها، خاصة وأن وجود سفير سعودي معتمد في الضفة وقنصل سعودي معتمد في القدس يساعد كثيرًا على تسهيل الاتصالات الرسمية بين السعودية وإسرائيل، رأى فيها البعض الآخر دليلًا واضحًا على تمسك المملكة العربية السعودية بمبادرة التسوية التي أقرتها قمة بيروت لعام 2002، وعلى حرصها في الوقت نفسه على استغلال حاجة الإدارة الأمريكية الملحة لتحقيق إنجاز ملموس في مجال تطبيع العلاقة مع إسرائيل لانتزاع تنازلات تسهم في إعادة فتح طريق التسوية السياسية المغلق منذ فترة طويلة، وبما يمهد لإقامة دولة فلسطينية في المستقبل المنظور.

معنى ذلك أننا أمام قراءتين متناقضتين لدلالة الخطوة التي أقدمت عليها المملكة العربية السعودية مؤخرًا. فالقراءة الأولى تبدو لي أكثر اتساقًا مع المعلومات المتاحة والموثقة حول الجهود التي تبذل لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وهي معلومات تؤكد على أن قنوات الاتصال غير الرسمية القائمة منذ سنوات طويلة بين السعودية وإسرائيل ما تزال مفتوحة، بل وتوحي بأن السعودية بدأت تهيئ نفسها تدريجيًا للانضمام إلى قافلة الدول العربية المنخرطة في “اتفاقيات أبراهام”، خاصة وأنه لم يكن من المتصور عقلًا أن تقدم دولة خليجية مثل البحرين على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل دون الحصول على موافقة سعودية صريحة أو ضمنية على خطوة بمثل هذه الدرجة من الأهمية. معنى ذلك أن المقدمات كلها توحي بأن الخطوة التي أقدمت عليها السعودية مؤخرًا، بتعيين سفير لها لدى السلطة الفلسطينية في هذا التوقيت بالذات، تبدو أكثر ارتباطًا بالجهود التي تبذلها إدارة بايدن حاليًا لدفع عجلة التطبيع بين السعودية وإسرائيل، منها بالجهود المبذولة لإقناع إسرائيل بإعادة فتح الطريق نحو قبول تسوية تقوم على أساس “حل الدولتين”. أما القراءة الثانية فتدخل، في تقديري على الأقل، في عداد التقديرات المستندة إلى البحث عن النوايا وليس في عداد التحليلات المستندة إلى معلومات موثقة. صحيح أن السعودية تعتبر نفسها الدولة العربية الأقوى والأهم في المرحلة الراهنة، ومن ثم ترى أنها ينبغي أن تعامل باعتبارها الجائزة الكبرى التي تستحق أن يدفع في مقابل الحصول عليها أغلى الأثمان، غير أنه لا يوجد ما يبعث على الاعتقاد بأن الأثمان المطلوبة لها علاقة بالبحث الجدي عن تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، والأرجح أن يكون لها علاقة بمصالح سعودية أولًا وقبل كل شيء.

فالسعودية تشترط على الولايات المتحدة أن تبادر باتخاذ سلسلة من الإجراءات التي تراها ضرورية كثمن يمكن أن يغريها بالإقدام على خطوة التطبيع الرسمي مع إسرائيل، أهمها: 1- الموافقة على إبرام معاهدة أمن جماعي تلتزم الولايات المتحدة بموجبها بالدفاع عن السعودية في حال تعرض الأخيرة للعدوان من أي جهة أو طرف خارجي، وذلك على غرار المعاهدة التي تربط بين الدول الأعضاء في حلف الناتو. 2- الموافقة على رفع القيود المفروضة على مبيعات الأسلحة الأمريكية المتطورة للسعودية، خاصة ما يتعلق منها بطائرات F 35 وبمنظومات الدفاع الجوي اللازمة لتغطية وحماية الأجواء السعودية ضد أي هجمات صاروخية أو جوية قد تتعرض لها. 3- مساعدة السعودية على بناء برنامج نووي سلمي يمكن للولايات المتحدة أن تشرف عليه وتراقبه، شريطة أن يتم تخصيب اليورانيوم داخل المملكة وليس خارجها. وتجمع معظم وسائل الإعلام الأمريكية على أن إدارة بايدن أصبحت أكثر ميلًا في هذه الأيام للاستجابة لمعظم الشروط السعودية، وذلك لسببين رئيسيين، الأول: حاجة الولايات المتحدة الماسة لإعادة إدخال المملكة السعودية من جديد إلى حظيرة النفوذ الأمريكي وقطع الطريق أمام محاولاتها الرامية للانفتاح على كل من روسيا والصين، الثاني: حاجة بايدن الشخصية لتحقيق إنجاز دبلوماسي كبير يساعده على الفوز في انتخابات الرئاسة المقرر إجراؤها في نهاية العام القادم. ولأن السعودية تبدو حريصة على أن لا تظهر بمظهر الدولة العربية التي لا تبالي بتوجيه طعنة لنضال الشعب الفلسطيني وخيانة قضيته العادلة، فمن الطبيعي أن تبحث لنفسها عن غطاء سياسي يتيح لها الادعاء أنها لم تقدم على تطبيع العلاقة رسميًا مع إسرائيل إلا بعد تمكنها من الحصول على تنازل واضح من إسرائيل لصالح القضية الفلسطينية. لكن ما طبيعة التنازل الذي يمكن للولايات المتحدة أن تنتزعه من الحكومة الإسرائيلية الحالية؟

تشير تقارير عديدة نشرت مؤخرًا في معظم وسائل الإعلام الأمريكية إلى أن إدارة بايدن دخلت منذ أسابيع وربما شهور عديدة في مفاوضات شاقة ومعقدة لإقناع إسرائيل باتخاذ سلسلة من الإجراءات المتعلقة بالأراضي الفلسطينية والمستوطنات الإسرائيلية، أهمها: 1- الإعلان رسميًا عن عدم وجود نية لديها لضم الضفة الغربية أو أجزاء منها، سواء في الوقت الحالي أو في المستقبل 2- الالتزام بعدم إقامة أية مستوطنات جديدة أو الإقدام على توسيع المستوطنات القائمة حاليًا 3- الالتزام بعدم إضفاء صفة قانونية على المستوطنات «غير الرسمية» 4- الالتزام بتنفيذ ما ورد في اتفاقية أوسلو حول نقل بعض أراضي الضفة الغربية المدرجة في نطاق المنطقة ج، الخاضعة كليًا لسلطة الاحتلال في الوقت الحالي، إلى نطاق المنطقتين أ و ب، الخاضعتين كليًا أو جزئيًا للسلطة الفلسطينية. ويتضح من هذه الإجراءات أن الأفكار المطروحة أمريكيًا تقتصر على عدد من الخطوات ذات الطابع الرمزي، لكن يعتقد أنها تكفي للايحاء بإمكانية إعادة المسار التفاوضي من جديد وترسيخ الاعتقاد بأن الطريق المفضي إلى تسوية على أساس حل الدولتين بات مفتوحًا، بعد أن كان يبدو مغلقًا تمامًا، لكن هذه الأفكار لا تتضمن في حقيقة الأمر أي إجراء قابل لإلزام إسرائيل بالانسحاب كليًا من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، كثمن يتعين على السعودية أن تحصل عليه مقابل التطبيع الكامل لعلاقاتها بإسرائيل، وهنا مكمن الخطورة. فالسعودية هي صاحبة المبادرة العربية التي تبنتها قمة بيروت، وهي مبادرة تربط عضويًا بين تطبيع العلاقة مع إسرائيل وبين إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، أي أنها تشترط إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة أولًا قبل الشروع في تطبيع العلاقة مع إسرائيل. لذا يمكن القول دون أي مبالغة إن إدارة بايدن ليست معنية بتمهيد الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية حقيقية ومستقلة، بقدر ما هي معنية بالبحث عن غطاء سياسي يسمح للسعودية بالمضي قدمًا على طريق التطبيع الرسمي لعلاقتها بإسرائيل، دون أن تشترط على الأخيرة في المقابل اتخاذ أي خطوة خطوة جادة تلزمها بالانسحاب الفعلي من كل الأراضي المحتلة في عام 1967 أو إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، لا الآن ولا في المستقبل المنظور. وإذا صح هذا الاستنتاج، ينبغي علينا أن نطرح السؤال التالي: ما الذي يدور فعلًا داخل العقل السعودي حول تلك القضية الشائكة التي ستلقي حتمًا بتداعياتها الخطيرة على حاضر ومستقبل المملكة؟

قد يقول قائل إن البحث في النوايا والضمائر لا يمت لحقل العلوم السياسية بصلة، وبما أن السعودية لم تقدم على تطبيع علاقاتها رسميًا بإسرائيل، يفترض أنها ما تزال ملتزمة بالمبادرة العربية، من الناحية الرسمية على الأقل، ومن ثم لا يجوز التوصل إلى استنتاجات متعجلة مبنية على الغوص في النوايا السعودية. وهذا صحيح. ومع ذلك يمكن القول دون تردد إن المخاوف الناجمة عن احتمال إقدام السعودية على تطبيع علاقتها رسميًا مع إسرائيل، في مقابل خطوات رمزية لا تقدم ولا تؤخر في مجال البحث عن تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، لها ما يبررها وتستمد معقوليتها من مسألتين على جانب كبير من الأهمية، الأولى: تتعلق بسلوك معظم الأنظمة العربية الحالية تجاه القضية الفلسطينية، والثانية: تتعلق بسلوك الحكومة الإسرائيلية الحالية واحتمالات قبولها للعودة إلى مسار التسوية السياسية على أساس “حل الدولتين”. فقد سبق لجميع الدول العربية التي أقدمت على تطبيع علاقاتها رسميًا بإسرائيل أن وافقت على مبادرة بيروت العربية للسلام، والتي تلزمها بعدم التطبيع مع إسرائيل إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، لكن أقدمت رغم ذلك على ارتكاب خرق واضح وصريح لنص وروح هذه المبادرة، ما يدعونا للاعتقاد بعدم استبعاد إمكانية القيام بتصرف مماثل من جانب السعودية في أي وقت. على صعيد آخر، يصعب جدا تصور أن تقبل الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهي أشد الحكومات تطرفًا في تاريخ إسرائيل، العودة إلى مسار للتسوية يقوم على حل الدولتين، لأنه سيؤدي حتمًا إلى انهيارها. لذا آمل أن تتوخى السعودية منتهى الحذر، لأن إقدامها على تطبيع علاقاتها رسميًا بإسرائيل، دون مقابل حقيقي وملموس، سيدخل العالم العربي كله في دوامة جديدة من الفوضى، قد لا يستطيع الخروج منها معافى هذه المرة.