دراسات التابع (Subaltern Studies) ، نزعة فكرية وأكاديمية نشأت في الأوساط البحثية والجامعية الهندية في الولايات المتحدة الأمريكية، وتمحورت حول أعمال المؤرخ رناجيت غوها الذي كتب عدة دراسات هامة حول تاريخ الهند في العصر الاستعماري وأشرف على عدة مجلدات حملت عنوان “دراسات التابع”.
ومن المعروف أن هذا التيار تأثر بفكرة الفيلسوف الإيطالي أنتونيو غرامشي حول الهيمنة، واعتبر أن الدراسات الإنسانية يجب أن تغير وجهتها من التركيز على النخب المسيطرة سياسيًا وثقافيًا، بما يعني إبراز القوى الاجتماعية المضطهدة في عملية التغيير وصناعة التاريخ. وفي الاتجاه نفسه، يتعين الخروج من منطق الهيمنة الفكرية الغربية التي تتأسس على احتكار المعنى والقيم ورفض حقوق الاستقلالية الإبستمولوجية في رؤية الوقائع والأحداث.
ومن هنا الميل إلى قراءة التاريخ “من الأسفل” (From Below) رفضًا للبراديغم الوطني الذي يتنكر للصراع الطبقي وتناقض المصالح بين النخب المهيمنة والقوى الاجتماعية المغلوبة. وفق هذه الرؤية، لم تكن حركة الاستقلال الوطني في الهند نتاج سياسات ونضالات النخب المتغربة التي ورثت مواقع السلطة والقرار بعد زوال الاحتلال، وإنما هي من آثار انتفاضات المزارعين والمهمشين الذين سعوا إلى قلب معادلة السلطة وكسر الاستبداد في موازينه العميقة.
ما يهم غوها هو نقد المسحة الأكاديمية الموضوعية في العلوم الإنسانية التي هي نتاج عملية تواطؤ منهجي بين الهيمنة الاستعمارية الغربية والخطاب الاستقلالي للنخب المحلية، بما ينتج عنه نقد مزدوج للمركزية الغربية ونظام الهيمنة الوطنية.
ولا شك في أن أهم وجه فكري لمدرسة التابع هو الفيلسوفة والناقدة الأدبية غياتري سبيفاك ذات الأصول الهندية، وقد أصدرت سنة 1999 كتابها الأساسي “نقد العقل ما بعد الكولونيالي” (A critique of postcolonial reason).
في هذا الكتاب، تذهب سبيفاك إلى نقد المؤسسات المعرفية الغربية، التي ترى أنها تكرس ما سمته بالجهل “المجاز” الذي هو نمط من الإهمال المتعمد المقصود للعوالم المعرفية والاجتماعية غير الغربية، من نظم مجتمعية، وثقافات مغايرة وفئات مهمشة مضطهدة.
نلمس هنا تأثيرًا قويًا لأطروحة إدوارد سعيد في نقد الاستشراق بصفته خطاب هيمنة وتحكم عن طريق المعرفة، كما نلمس توظيفًا مكثفًا لتفكيكية جاك دريدا الذي ترى سبيفاك أنه الفيلسوف الغربي الوحيد الذي كشف عن مركزية العقل الاستعلائي الغربي في تصوره للآخر المختلف ثقافيًا واجتماعيًا.
ولا ريب في أن أفكار سبيفاك الأساسية متضمنة في كتابها “هل يمكن أن يتكلم التابعون؟” (Can the subaltern speak?) الذي هو عمل مطول ضمنته في كتابها المذكور آنفًا “نقد العقل ما بعد الكولونيالي”. وقد أثار هذا العمل جدلًا فكريًا واسعًا ساهم فيه الكثير من كتاب وفلسفة الغرب.
منذ بداية الكتاب، تعلن سبيفاك أن الإنتاج الثقافي الغربي بمختلف أنواعه وأصنافه يدخل في باب التواطؤ مع المصالح الاقتصادية الدولية للغرب. ومن هنا ترى أن النقد الراديكالي الذي تنتهجه بعض الفلسفات والتيارات الفكرية لا يرمي إلى إزاحة المركزية الغربية المهيمنة بل الإبقاء على الغرب من حيث هو ذات متحكمة وفاعلة. وبتناول نقد الذاتية النظرية لدى اتجاه واسع في الفلسفة الغربية منذ مرحلة ما بعد نيتشه، تخلص سبيفاك إلى أن حصيلة هذا النقد هي مجرد التمويه على الذات المعرفية المسيطرة.
ترجع سبيفاك هنا إلى نظريات الفيلسوفين الفرنسيين ميشال فوكو وجيل دلوز في رصدهما لعلاقة التشابك الكثيف بين المعرفة والسلطة والرغبة، معتبرة أن ما يبدو لديهما من نقد تفكيكي جذري لنظام الهيمنة الذاتية في الغرب ليس سوى غطاء فعال لتبرير وضعية القمع والتحكم القائمة، دون التعرض عمليًا لاختلال روابط المصلحة والمنفعة بين المركز الغربي وبقية العالم. في هذا التوجه، يغيب التحليل الأيديولوجي الذي هو وحده المؤهل لضبط بؤر الهيمنة النفعية، ويتم التشكيك في فاعلية الخطاب الثوري التغييري للواقع المختل.
وهكذا لا يمكن الاعتماد على فلسفات ما بعد الحداثة في تعرية الاستعمار والهيمنة، لكونها تندرج في عمق الخطاب المركزي الغربي، من منطلق خطير هو التشكيك في الفاعلية النضالية ضد الهيمنة والسيطرة بمنظور تفكيكي يحول دون تخويل العقل قوة نقدية إيجابية ودون الوقوف ضد القهر الذي يجري اختزاله في شبكات السلطة الممتدة والرخوة والمتقاطعة مع المعرفة والرغبة.
نلمس هنا جانبًا من النقد الماركسي للتيار التفكيكي وما بعد البنيوي، وقد وصل ذروته في أدبيات مدرسة فرانكفورت وبصفة خاصة كتاب يورغن هابرماس الشهير “الخطاب الفلسفي للحداثة”. في هذا الكتاب الذي ما يزال يختزن نفسًا ماركسيًا تقلص تدريجيًا في أعمال هابرماس اللاحقة، نلمس وجهًا أساسيًا من نقد النزعات التفكيكية التي تنتهي في رفضها الجذري لأفكار وقيم التنوير والحداثة إلى تبرير الوضع القائم وإغلاق منافذ التغيير والتمرد الإيجابي.
بيد أن ما يميز دراسات التابع، هو كونها تستفيد من الأعمال الفلسفية والاجتماعية والتاريخية التي أعادت النظر في سردية الكونية الغربية، لكنها ترى أنها وقفت في نصف الطريق بعجزها عن بلوغ مستوى اختلافي حقيقي يدمج الآخر والمغاير ويمنحه حق الكلام والتعبير.
لقد أراد فوكو أن يخرج من قبو الإهمال صوت المجنون والمريض والسجين، لكنه لم يخرج من المركزية الغربية، فلم يتعرض لقمع الاستعمار وللسيطرة المكثفة التي تستهدف في حركية واحدة وجوهًا مقصية مهمشة من قبيل المرأة الملونة العاملة مثلًا.
في الساحة العربية، لا نلمس أثرًا كبيرًا لدراسات التابع، رغم بعض المحاولات المتفرقة المحدودة لإعادة كتابة التاريخ العربي من منظور الهوامش المضطهدة المقموعة. لقد اتجه قطاع واسع من الدراسات الفلسفية والاجتماعية العربية إلى التبشير بالاتجاهات التفكيكية بصفتها كفيلة بنقد عميق للمركزية الغربية، لكن ما غاب عن هذه الدراسات هو الخروج من الأفق المرجعي الغربي نفسه في معالجة اختلال التوازنات المعرفية والمجتمعية بين العالم الذي ننتمي إليه والغرب الذي له سياقاته التاريخية الخاصة به.