الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

ذكرى النكبة في زمن المقاومة، بقلم د. حسن نافعة، المفكر المصري وعضو مجلس الأمناء

تحل في هذه الأيام ذكرى النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني والتي وقع الاختيار على اليوم التالي لإعلان قيام دولة الكيان الصهيوني عام 1948 موعدًا سنويًّا لإحيائها. ومن المعلوم أن نكبة الشعب الفلسطيني لم تبدأ في هذا اليوم، وإنما بدأت في حقيقة الأمر بتأسيس الحركة الصهيونية عقب انعقاد مؤتمر بازل عام 1897، وما تزال فصولها تتوالى حتى يومنا هذا. فعقب مؤتمر بازل مباشرة، تأسست الوكالة اليهودية التي أخذت على عاتقها مسؤولية نقل مشروع الحركة الصهيونية، والذي استهدف إقامة دولة يهودية في فلسطين، من عالم الأحلام إلى أرض الواقع المعاش. ولأن وضع هذا المشروع الخطير موضع التنفيذ تطلب جهدًا فائقًا وإجراءات دولية وإقليمية بالغة التعقيد، فقد كان من الطبيعي أن يستغرق تنفيذه ردحًا طويلًا وألا يتمكن من تحقيق أهدافه وغاياته النهائية إلا عبر مراحل زمنية متدرجة ومدروسة، لكل منها سماتها وملامحها الخاصة. وقد تمكنت الحركة الصهيونية من تحقيق أولى أهم إنجازاتها على هذا الطريق، حين نجحت في استصدار تصريح من وزير الخارجية البريطاني عام 1917، تتعهد فيه بريطانيا رسميًّا بمساعدة هذه الحركة على إنشاء “وطن قومي لليهود في فلسطين” (وعد بلفور)، ثم تمكنت بعد ذلك من تحقيق ثاني أهم إنجازاتها، وربما أهمها على الإطلاق، حين تمكنت من إدراج نص هذا التصريح كأحد بنوك صك الانتداب على فلسطين، الذي أبرمته “عصبة الأمم” مع بريطانيا عام 1922، ما حوّل تصريح وزير الخارجية البريطاني من مجرد “وعد أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق”، إلى التزام قانوني دولي تتولى بريطانيا تنفيذه بتفويض من المجتمع الدولي كله، ممثلًا في “عصبة الأمم” في ذلك الوقت. وبهذا “الصك” ضمنت الحركة الصهيونية تقنين الهجرة اليهودية إلى فلسطين، كما ضمنت في الوقت نفسه توفير مظلة سياسية لتمكين المهاجرين اليهود لا من استيطان فلسطين فحسب، وإنما أيضًا من تسليح أنفسهم والاستيلاء تحت حماية الاحتلال البريطاني على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية، ما وفر للمهاجرين اليهود تدريجيًّا جميع المقومات التي تمكنهم من تشييد البنية الأساسية اللازمة لإقامة دولة خاصة بهم حين تتاح الفرصة. ولأن هذه الفرصة أصبحت متاحة بالفعل عقب تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 مشروع قرار تقسيم فلسطين، فقد بات من السهل على الدولة اليهودية الوليدة أن تعلن عن قيامها رسميًّا في 14 أيار/مايو عام 1948، ممهدة بذلك لاندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى التي انتهت بنكبة كبرى حلت بالشعب الفلسطيني، بتمكين الكيان الصهيوني من احتلال 78% من أرضه التاريخية وطرد وتشريد ما يقرب من مليون شخص.

غير أن النكبات التي أصابت الشعب الفلسطيني لم تتوقف عند هذا الحد، بل راحت تتوالى لتصل ذروتها بتمكين إسرائيل عام 1967 من احتلال ما تبقى من أرضه. هكذا أصبح الشعب الفلسطيني كله منكوبًا، يعيش نصفه مشردًا ومنفيًّا في الشتات، بينما يعيش نصفه الآخر تحت الاحتلال المباشر في الضفة وفي غزة أو كمواطنين من الدرجة الثانية يعيشون داخل أرضهم المحتلة في 1948.

 

لا تقتصر مأساة الشعب الفلسطيني على أشكال المعاناة اليومية التي يكابدها تحت الاحتلال الإسرائيلي، من قتل، وتشريد، واعتقال، وسجن، وممارسة التعذيب، وهدم البيوت، ومصادرة الأراضي، والممتلكات وفرض الحصار والتجويع، ولكنها تمتد لتشمل الخذلان العربي أيضًا. فقد تخلى معظم الحكام العرب عن قضية الشعب الفلسطيني العادلة والنبيلة، وراحوا يهرولون بطريقة غير مبررة تجاه الكيان الصهيوني، بل ويتسابقون لتطبيع العلاقات معه، رغم إصرار هذا الكيان على التنكر المتواصل لجميع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ورفضه العنيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ولو على جزء محدود من أرضه التاريخية. ورغم هذه الوحشية الإسرائيلية، من جانب، والخذلان العربي، من جانب آخر، ورغم إدراك الشعب الفلسطيني بأنه بات وحيدًا في الميدان ولم يعد أمامه سوى الاعتماد على نفسه وعلى قدراته وإمكاناته الذاتية، لم يستسلم هذا الشعب أبدًا للأمر الواقع وراح يقاوم بكل من أوتي من إرادة لا تقهر، ويبدع في كل يوم أشكالًا جديدة من أشكال الصمود والمقاومة والنضال. صحيح أن بعض شرائح النخبة الفلسطينية ارتكبت أخطاءً تاريخية في مراحل مختلفة، خصوصًا حين انساقت وراء وهم التسوية السلمية، إلا أن الأغلبية الساحقة للشعب الفلسطيني ما تزال تقف بصلابة خلف المقاومة المسلحة، بل وتبتدع بنفسها كل يوم أشكالًا جديدة ومبتكرة من أشكال النضال والمقاومة، وباتت تؤمن إيمانًا لا يتزعزع بأن المقاومة المسلحة هي الطريق الوحيد لتمكينه من انتزاع حقوقه التاريخية، وعلى رأسها الحق في تقرير مصيره. تدل على ذلك ثوراته التي لم تنقطع طوال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، كما تدل عليه سلسلة المعارك التي قادتها فصائله المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، خاصة منذ معركة الكرامة عام 1968 وحتى معركة “ثأر الأحرار” التي قادها فصيل “الجهاد” مؤخرًا.

 

لا أظن أنني بحاجة هنا إلى تذكير القارئ بأن المشروع الصهيوني لاستيطان فلسطين ارتكز على دعامتين ليس لأي منهما مصداقية تاريخية. لذا يمكن القول دون تجاوز بأنه مشروع قام على خرافتين كبيرتين، الأولى: تدعي أن فلسطين أرض بلا شعب بينما اليهود هم شعب بلا أرض، والثانية: تدعي أن اليهود هم شعب الله المختار وبأن فلسطين هي الأرض التي وعدها الله بها وخصهم بها وحدهم. ومن المفارقات أن تتواكب ذكرى مرور 75 عامًا على النكبة الأولى التي ألمت بالشعب الفلسطيني مع نهاية جولة من جولات الصراع المسلح الذي لم ينقطع بين كيان صهيوني لم يتمكن بعد من تحقيق انتصاره النهائي على هذا الشعب المنكوب، وفصيل فلسطيني واحد، ضمن فصائل أخرى مقاومة، يؤكد مجرد وجودها على أن الشعب الفلسطيني لا يشكل حقيقة تاريخية قائمة فحسب، لكنه هو وحده صاحب الحق الأصيل في أرض فلسطين التاريخية كلها، كما يؤكد أنه شعب حي لا يموت وغير قابل للهزيمة مهما عظمت التضحيات. فجولة المواجهة العسكرية الأخيرة، والتي خاضها الكيان الصهيوني تحت شعار “عملية الدرع والسهم”، في مواجهة فصيل فلسطيني واحد هو “الجهاد”، خاضها تحت شعار “ثأر الأحرار”، أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن الكيان الصهيوني عجز عن تحقيق أي من الأهداف التي سعى إليها من وراء مبادرته بشن هذه الجولة الجديدة من المواجهات العسكرية، وهو ما خلص إليه بوضوح باحث في معهد الأمن القومي الإسرائيلي INSS (راجع المقال الذي نشره عودي ديكل Udi Dekel  بتاريخ 15/5/2023 على موقع المعهد تحت عنوان “حماس هي الرابح الأول من عملية الدرع والسهم”). صحيح أن الهدف الرئيسي من هذا المقال هو دق إسفين بين حماس والجهاد، لكنه يؤكد في وضوح تام على فشل العدوان الرئيسي في تحقيق أي من الأهداف التي سعى إليها. فإذا كان الكيان الصهيوني يبدو اليوم عاجزًا عن تحقيق أهدافه من مواجهة محدودة لم يشارك فيها سوى فصيل فلسطيني واحد، ليس هو الأكبر أو الأقوى بين فصائل فلسطينية عديدة، فكيف به إذا اضطر يومًا ما، قد لا يكون بعيدًا، لخوض مواجهة شاملة مع محور المقاومة ككل؟

 

إن المقابلة بين ما يجري اليوم على الساحتين الإسرائيلية والفلسطينية، بعد 75 عامًا من وقوع النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني، يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الكيان الصهيوني بدأ يشيخ في موقعه، ويشهد عصر أفوله رغم كل ما حققه من إنجازات، وأن الشعب الفلسطيني بدأ يبعث من جديد وراح يمتلئ شبابًا وحيوية، خصوصًا بعد أن نهض من كبوته وقرر حمل السلاح في مواجهة مشروع لا يمكن إلا أن يكون استعماريًّا وعنصريًّا ومتطرفًا بطبيعته. فالكيان الصهيوني، والذي كثيرًا ما تباهى بأنه واحة الديمقراطية الوحيدة في منطقة لا تعرف سوى القمع والاستبداد والتسلط، يتجلى اليوم على حقيقته التي بدأ يدركها العالم كله، بوصفه كيانًا استعماريًّا استيطانيًّا عنصريًّا يعج بمتناقضات غير قابلة للحل ويتجه رويدًا نحو التسلط والاستبداد والتطرف الديني والقومي ويخلو من قيادات سياسية فاعلة قادرة على إعادته إلى رشده وقيادته نحو طريق الاعتدال والبحث عن تسوية متوازنة. أما الشعب الفلسطيني، والذي تعرض لأبشع أنواع الظلم والاضطهاد، فيبعث اليوم من رقاده كطائر العنقاء الذي يصر على التحليق عاليًا ويبدو مصممًا على نيل حريته واستقلاله مهما كانت فداحة الثمن الذي يتعين دفعه.

 

في 23 آذار/مارس 2011، صوّت الكنيست الإسرائيلي على مشروع قانون يمنع إحياء ذكرى النكبة، وينص على سحب تمويل أي مؤسسة أو جمعية وكذلك على معاقبة كل فرد يقوم بإحياء هذه الذكرى بالحبس لمدة لا تقل عن سنة وبدفع غرامة لا تقل عن عشرة آلاف شيكل. لكن منذ متى كانت قوانين الاحتلال وممارساته العنيفة قادرة على شل إرادة شعب صمّم على تحطيم قيوده وحمل راية الكفاح حتى النصر؟