لقد قام المشروع القومي العربي تاريخيًا على محورية سؤال الهوية منظورًا إليها من حيث هي حقل الانتماء التاريخي والثقافي العضوي وإطار الوعي بالخصوصية الذاتية.
بيد أن مفهوم الهوية اعتبر في الغالب مقولة بديهية لا تحتاج الضبط والتدقيق والتحديد الإشكالي، رغم أن هذا المفهوم له سياقه الفلسفي الخاص ومخزونه النظري والمعياري الكثيف.
لن نذهب بعيدًا في تتبع مسار نشأة وتطور مفهوم الهوية الذي خصص له مؤرخ أفكار العصور الوسطى الآن دي لبيرا كتابًا هامًا في إطار سلسلته في “حفريات الذات”، وإنما حسبنا الإشارة إلى الأسئلة والرهانات الكبرى التي ترتبط بهذا المفهوم في الفكر الراهن.
فمن الجلي أن سؤال الهوية يشهد في أيامنا اهتمامًا واسعًا، في سياق الحركية السياسية والأيديولوجية الصاعدة في الديمقراطيات الغربية، والتي من سماتها الأساسية تزايد نفوذ وحضور الاتجاهات الشعبوية القومية التي غدت حاكمة في بلدان عديدة.
من أهم المفكرين الذين تناولوا مؤخرًا هذا الموضوع الفيلسوف الأمريكي ذو الأصول الغانية كوامي أنتوني بياه الذي أصدر قبل سنوات قليلة كتابه الهام “الأكاذيب التي تربطنا: إعادة التفكير في الهوية” (The Lies That Bind: Rethinking Identity).
الكتاب هو في حقيقته مساهمة أساسية في الحوار الفلسفي القوي بين الاتجاهين الليبرالي والمجموعاتي، حول اعتبارات القيم المدنية التي تختزل لدى الليبراليين في الحقوق القانونية المحايدة معياريًا، بينما يؤسسها المجموعاتيون على التقاليد الأخلاقية المشتركة بدلًا من المحددات الذاتية الفردية.
ومن الواضح أن بياه يخرج عن الاتجاهين معًا، معترفًا بأهمية الهوية من حيث هي إطار للانتماء الجماعي، دونه لا سبيل للترابط والتعاون بين الأفراد ولا سبيل لتصور مجتمع مندمج أو دولة قائمة.
إلا أنه يعتبر أن الهوية ليست مفهومًا بديهيًا ولا مظهرًا لوعي موضوعي، بل هي في حقيقتها حالة مصطنعة ومخترعة وإن توهم الناس أنها طبيعية وعادية.
وإذا كانت أطر الهوية الأكثر انتشارًا هي الديانة، والأمة، والعرق، والطبقة الاجتماعية والثقافة، فإن التجربة تبين أن أيًا من هذه الأطر لا تشكل بذاتها مقوم هوية مستقلة، بل تخضع لأنماط شتى عديدة من التركيب والتصرف تفضي إلى أشكال لا تنتهي من الوعي الخصوصي.
وإذا كان بياه ينتقد الليبراليين في اعتقادهم القدرة على الاكتفاء بنظرية صورية للعدالة في بناء قاعدة صلبة للوعي الوطني المدني، مبينًا أن ثمن هذا الوهم هو إقصاء الاعتبارات الأخلاقية القوية التي هي أساس الالتزامات السلوكية للأفراد داخل مجتمع معين، إلا أنه يرفض في الوقت نفسه نظريات الأصالة والاعتراف التي بلورها المجموعاتيون (خصوصًا الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور) لكونها تفترض هوية أصلية ثابتة للأفراد وتغلقهم في القوالب التاريخية للانتماء الثقافي.
وهكذا يرى بياه أن الهوية ليست سجنًا مفروضًا، ولا هي دائرة مغلقة للانتماء، بل إن الإنسان المدني الحر الذي هو نموذج الذاتية الحديثة قادر على صنع هويته من خلال الاختيار المفتوح دون قيود أو شروط، وهذا هو بالضبط جوهر الديمقراطية الليبرالية.
إلا أن بياه لا يعتبر نفسه مفكرًا ليبراليًا، بالمعنى المألوف السائد، بل يستند إلى التقليد الكوزمبولوتي الكوني، في أولوية الرابطة الإنسانية الشاملة على اعتبارات الخصوصية والانتماء، مؤكدًا أن التقاليد الثقافية والحضارية البشرية تحمل في طيها هذا البعد الإنساني الكوني وإن اختزلتها الأنساق الأيديولوجية المتعصبة في محددات الهوية المغلقة.
يستعيد هنا بياه أفق المشروع الكانطي في تأسيسه للنزعة الكوزمبولوتية على أساسين: قانوني يتمثل في وحدة وتضامن الشعوب والدول الحرة، وإنثربولوجي يكمن في معايير النقد والاستقلالية والكرامة الإنسانية.
في الفكر العربي، طرح سؤال الهوية تقليديًا في اتجاهين: علاقة الرابطة الوطنية المدنية التي تتمحور حول الدولة المسماة قطرية والرابطة القومية العليا التي يرتكز عليها مفهوم الأمة، وعلاقة وحدة المعتقد الديني الذي هو الإسلام بالنسبة للأغلبية المطلقة من العرب ووحدة الانتماء اللغوي والثقافي التي هي العروبة بصفتها تتجاوز الانتماءات الدينية.
وهكذا ندرك التصادم الواسع بين النزعتين القومية والوطنية الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين على الأخص، كما ندرك الإشكالات التي ارتبطت بموضوع الإسلام في الخطاب القومي، حيث ذهب البعض (مثل فرح أنطون) إلى ضرورة تغليب الخيار العلماني لحسم مشكل التعددية الدينية، وذهب البعض الآخر (مثل ميشال عفلق) إلى النظر إلى الإسلام بصفته الوعاء الحضاري الأوسع للعروبة بما يقتضي دمجه في صلب النظرية القومية. لقد عاد المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري إلى هذا النقاش في كتابه “مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب”، الصادر عام 1997، وفيه يعتبر أن الإشكال الفعلي المطروح على المجتمعات العربية هو الخيار العقلاني الديمقراطي الذي هو حل المشكل التعددية الدينية في الواقع الراهن.
بيد أن مسارات الانفتاح الديمقراطي التي عرفها العالم العربي في السنوات الأخيرة، بخلفيات ووتائر متباينة، أعادت طرح سؤال الهوية من منظور جديد هو منظور الأقليات العرقية والطائفية التي لا يكاد مجتمع عربي يخلو منها.
لقد طرح المشكل خصوصًا في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وفي السودان بعد نهاية نظام البشير، وفي موريتانيا والجزائر وليبيا أيضًا وغيرها. وأصبح السؤال المطروح هو هل يمكن أن تتلاءم الممارسة الديمقراطية مع فكرة الهوية القومية العروبية التي تقصي الأقوام والملل الأخرى من نسيج المواطنة، أو تموه التنوع العقدي والمذهبي الذي هو واقع مجتمعي لا يمكن تجاهله؟
لقد أصبح المشكل حادًا بعد انفصال جنوب السودان (غير العربي وغير المسلم) والانفصال الفعلي لكردستان العراقية (غير العربية) ومن بعدها كردستان السورية، وأصبح مشكل جنوب ليبيا الذي تعيش فيه قبائل الطوارق والتبو مطروحًا ومرتبطًا بأزمات الساحل الإفريقي.
في كل هذه الساحات، نلمس انهيار أو تراجع الدولة الوطنية، التي كانت الحصن المنيع دون التفكك، والتجزؤ وانفجار الهويات الخصوصية، حتى لو كان الفكر القومي في السابق وصفها بالقطرية غير الشرعية.
حاصل الأمر، أن مسألة الهوية لا يمكن حلها إلا ضمن منظور المواطنة المتساوية الشاملة في سياق دولة مدنية ديمقراطية تعترف بالتنوع الثقافي والتعددية السياسية.