في الحديث الرائج في أيامنا حول التوجهات السياسية الأمريكية الجديدة في عهد الرئيس ترامب، يتم التركيز عادة على قطيعة الخطاب السياسي الأمريكي مع الليبرالية بعد أن كانت الولايات المتحدة لمدة قرون كعبة العالم الليبرالي المدافعة عنه.
كثيرًا ما يتم هنا إنكار حقيقة تاريخية موضوعية وهي أن الليبرالية، من حيث هي نزعة أيديولوجية فكرية وخط سياسي، لا تتماهى ضرورة مع الحداثة في منطقها الفلسفي وعمقها النظري المعياري.
ولذا، فإن اللحظة الحاسمة التي تعيشها راهنًا الولايات المتحدة وأنحاء أخرى من الغرب ليست غريبة في الحقيقة، وإنما تترجم جانبًا من ديناميكية الحداثة، حتى وإن كانت المقولات الليبرالية سيطرت بصفة شبه كاملة على المرجعية الفكرية لعالمنا المعاصر.
فمن البديهي أن معجمنا الفكري يتشكل أساسًا من ثلاثة مكونات هي: نظرية العقد الإجتماعي كما بلورها فلاسفة التنوير الأوروبي في تفسير نشأة الدولة في علاقتها بالمجتمع الأهلي من منظور التوافق المدني القائم على الحرية والإرادة الفردية المطلقة، ونظرية السيادة التي كرست الولاء المطلق للدولة من حيث هي التجسيد الحي للإرادة المشتركة والمجال العمومي المؤسس على محض المصلحة الجماعية والعدالة الإجرائية الموضوعية، ونظرية الشرعية المؤسسية التي تحدد معيار التمثيل الحر والفصل بين السلطات إطارًا لضبط وتقويم النظام السياسي المقبول والمستقر.
ما يتم التغاضي عنه هو أن هذا المعجم ليس سوى سردية مسيطرة، ليست هي المقاربة الوحيدة للحداثة الليبرالية وإن كانت هيمنت على الدراسات الاجتماعية والقانونية في العالم الغربي، خصوصًا بعد نهاية الحرب الباردة.
منذ العصور الحديثة وبدايات فكر الأنوار، قامت محاولات فكرية جريئة لنقد وتفكيك السردية الليبرالية، بدأت مع جان جاك روسو نفسه، الذي هو أحد أبرز مفكري العقد الاجتماعي ووصلت مداها في أعمال الفيلسوف والقانوني الألماني المعاصر كارل شميت الذي أثر بقوة في الاتجاه الجديد المناوئ للفكرة الليبرالية.
فإذا كان روسو قد شكّك في قابلية تمثيل الإرادة الحرة عن طريق نظام سياسي مركزي للدولة، معتبرًا ضمنيًا أن منطق السياسة يتنافى في الجوهر مع الحرية والمساواة القانونية، فإن كارل شميت نبّه إلى تناقضات الحالة الليبرالية المعاصرة في ثلاثة مستويات كبرى هي: نفي الحرب من منظور السلم المدني، وتأسيس السياسة على المرجعية القانونية مع تمتعها بالسيادة المطلقة، والقطيعة المرجعية مع الدين مع تحويل الفعل السياسي إلى مقدس ديني.
في المستوى الأول، يبين شميت أن نظرية العقد الاجتماعي تقوم على مغالطة أصلية هي افتراض حالة طبيعية للاجتماع السياسي تقوم على العنف الشامل والحرب الكلية تقتضي للخروج منها بناء وضع سياسي منظم ضامن للسلم الأهلي والتعاضد المدني. المشكل هنا هو أن هذه النظرية ليست لها أي حجج عقلانية أو تاريخية على فرضية الحالة الطبيعية، كما أنها لا تقدم تفسيرًا مقبولًا للوضع التعاقدي الذي تفترضه على شكل ميثاق توافقي مجرد دون مضمون فعلي. الأدهى من هذا كله هو أن افتراض خروج الفعل السياسي من الصراع والحرب ليس سوى وهم، في الوقت الذي يلغى العنف من دائرة المعنى والحق بما يحوله إلى ظاهرة مكبوتة لا تفتأ تطفو على السطح ما دامت السياسة في جوهرها تقوم على الحرب، والصدام، وثنائية الصداقة والعداوة، التي تضاهي ثنائية الخير والشر في الأخلاق.
وفي المستوى الثاني، يبين شميت أن مفهوم السيادة يعني التمتع بسلطة الاستثناء والتحكم المطلق، بينما تقوم المرجعية القانونية للدولة الحديثة على الضبط المعياري التفصيلي الذي يمنع الانفراد بالسلطة والاستبداد الأحادي. مع عصور الحداثة تم إلغاء المرجعيات الطبيعية والأخلاقية والدينية للخير المشترك احترامًا لمبدئي التعددية المفهومية والقيمية والحرية الذاتية، بينما انتقل المطلق الخارج عن الحقل السياسي إلى داخله فأصبحت السيادة تعني تمتع الدولة بكل صفات وسمات السلطة المطلقة التي لا قيود فيها، ما دامت الدولة هي نفسها مصدر القوانين والنظم الاجتماعية.
إلا أن هذا المفهوم الإطلاقي للسيادة قد تم نفيه من منظور ليبرالي ضيق (الدولة مجرد إطار لتنظيم حرية الأفراد) فأصبح المشكل القائم متمحورًا حول سلطة الاستثناء المطلق التي هي المرجعية العميقة للدولة السيادية لكنها خانة غير مفكر فيها في البنية القانونية لهذه الدولة. لقد ظهرت هذه الثغرة في مناسبات عديدة، مثل حالات الحروب الخارجية، وإجراءات مكافحة الإرهاب وسياسات مواجهة الأزمات الصحية عابرة الحدود، وهي حالات تلجأ فيها الدولة إلى تعطيل الحريات والقوانين من منطلق تعتبره مؤقتًا ومحدودًا. إلا أن العديد من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين الذين طوروا نظرية شميت (في مقدمتهم الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين) يعتبر أن الليبرالية الحديثة انتقلت تدريجيًا إلى نمط من السلطة الحيوية الرقابية الشاملة التي قضت تدريجيًا على سماتها التحررية الانعتاقية.
في المستوى الثالث، يفكك شميت المسلّمة العلمانية، مبينًا أن الفكر الليبرالي الحديث يتأسس على الفصل مع الدين من منظور قانوني عقلاني إجرائي، لكنه في الحقيقة لا يتجاوز الصياغة العلمانية لنفس المقولات اللاهوتية التقليدية مثل السيادة التي هي في أصلها مقولة محورية في قاموس الأدبيات الدينية الكلاسيكية وتحيل إلى صفات الألوهية المطلقة، ومثل التمثيل الذي يرجع في أصله إلى عقيدة التجسد المسيحي. ولقد كانت هذه الإحالات واضحة في كتابات المفكرين السياسيين المحدثين كهوبز الذي أطلق في كتابه الشهير “اللفيتان” على الدولة القومية المركزية عبارة “الإله الفاني”، وكروسو الذي تحدث عن “الديانة المدنية” بديلًا عن الكنائس التقليدية القائمة.
لا بد من التنبيه هنا إلى أن فكر كارل شميت، الذي اعتبر نازيًا ومنافحًا عن الديكتاتورية وأُقصي لمدة طويلة من الساحة الفلسفية والنظرية يعود في أيامنا بقوة، ليس لدى الفلاسفة وحدهم، وإنما لدى جانب كبير من الساسة من مختلف المشارب والتوجهات. وليس اتجاه الديمقراطية غير الليبرالية الصاعد في أيامنا سوى مظهر من هذه العودة الواسعة إلى شميت الذي كشف عن ديناميكية حداثية مغايرة للحالة الليبرالية المهيمنة.