يرى بعض المراقبين أن القمة العربية التي عقدت في الجزائر يومي 1 و2 نوفمبر/تشرين الثاني نجحت في تحقيق هدفين على جانب كبير من الأهمية، الأول: إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية ودفعها من جديد إلى موقع الصدارة على جدول أعمال النظام العربي، والثاني: لم الشمل العربي، وهو العنوان الذي أصر البلد المضيف على أن يتخذ منه شعارًا لقمة هذا العام. وسوف نحاول في مقال اليوم استعراض وتحليل ما ورد في البيان الختامي متعلقًا بالقضية الفلسطينية، آملين أن تتاح الفرصة لاستعراض وتحليل ما ورد فيه متعلقًا بلم الشمل العربي في مقال الأسبوع القادم.
تضمن البيان الختامي لقمة الجزائر ست فقرات رئيسية عن القضية الفلسطينية، يمكن استعراض أهم ما جاء فيها على النحو التالي:
الفقرة الأولى: تضمنت تحديدًا للموقف العربي من الحقوق الفلسطينية، وجاء نصها كالتالي: “التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية والدعم المطلق لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما فيها حقه في الحرية وتقرير المصير وتجسيد دولة فلسطين المستقلة كاملة السيادة على خطوط 4 حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وفقًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948″. ويلاحظ أن هذه الفقرة لا تحتوي على أي جديد يلفت النظر، فهي تعكس الموقف الرسمي المعلن لكل الدول العربية، لكنها لا تعبر بصدق عن الموقف الحقيقي لهذه الدول. فمن المعروف أن معظم الحكومات العربية تخلت عن تقديم أي دعم فعلي للقضية الفلسطينية، سواء على المستوى المادي أو المعنوي، واستعاضت عن ذلك بتقديم دعم لفظي لا يسمن ولا يغني من جوع. وكان الأحرى بهذه الفقرة أن تحدد نوع الدعم الذي ينبغي أن تلتزم جميع الدول العربية بتقديمه “لتمكين الشعب الفلسطيني من استرداد حقوقه غير القابلة للتصرف”، وأن تتضمن آلية للتحقق من وفاء هذه الدول بالتزاماتها.
الفقرة الثانية: تضمنت تحديدًا للموقف العربي من مبادرة السلام العربية، وجاء نصها كالتالي: “التأكيد على تمسكنا (أي تمسك الدول العربية المشاركة في القمة) بمبادرة السلام العربية لعام 2002 بكافة عناصرها وأولوياتها، والتزامنا بالسلام العادل والشامل كخيار استراتيجي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي العربية، بما فيها الجولان السوري ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا اللبنانية، وحل الصراع العربي-الإسرائيلي على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام والقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة”. وتنطوي هذه الفقرة، في تقديري، على مغالطة واضحة، خاصة حين تتحدث عن تمسك الدول العربية “بكافة عناصر وأولويات المبادرة”. فمن المعروف أن مبادرة السلام التي تم إقرارها في قمة بيروت عام 2002 تشترط انسحاب إسرائيل أولًا من كافة الأراضي العربية المحتلة عام 1967 قبل أن تقوم الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. ولأن عددًا لا يستهان به من الدول العربية، كالإمارات والبحرين والمغرب والسودان، عكست هذا الترتيب، حين قامت بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل قبل إتمام الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، ومن ثم خرقت هذه المبادرة وخرجت على الإجماع العربي، فقد كان الأحرى بمؤتمر القمة المنعقد في الجزائر، إثباتًا للجدية والمصداقية، مطالبة الدول العربية التي قامت بإبرام اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل بعد قمة بيروت بتجميد هذه الاتفاقيات وعدم تفعيلها إلا بعد قيام إسرائيل بتنفيذ الشرط الخاص بالانسحاب الكامل من كافة الأراضي العربية المحتلة بعد 4 يونيو/حزيران 1967، وهو ما لم يحدث.
الفقرة الثالثة: تضمنت التزامًا بحماية مدينة القدس والحفاظ على عروبتها، في مواجهة عمليات التهويد التي تقوم بها إسرائيل، والعمل على ردع الاعتداءات التي يقوم بها المستوطنون على الأماكن المقدسة”، وجاء نصها كالتالي: “التشديد على ضرورة مواصلة الجهود والمساعي الرامية لحماية مدينة القدس المحتلة ومقدساتها، والدفاع عنها في وجه محاولات الاحتلال المرفوضة والمدانة لتغيير ديمغرافيتها وهويتها العربية الإسلامية والمسيحية والوضع التاريخي والقانوني القائم فيها، بما في ذلك عبر دعم الوصاية الهاشمية التاريخية لحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية وإدارة أوقاف القدس وشؤون الأقصى المبارك التابعة لوزارة الأوقاف والمقدسات الإسلامية الأردنية بصفتها صاحبة الصلاحية الحصرية وكذا دور لجنة القدس وبيت مال القدس في الدفاع عن مدينة القدس ودعم صمود أهلها. ولأن إسرائيل لم تتوقف أبدًا عن مواصلة تنفيذ مشروعاتها الرامية إلى تهويد مدينة القدس منذ احتلالها لهذه المدينة عام 1967، ووصلت محاولات التهويد إلى قلب المسجد الأقصى الذي يستبيحه المستوطنون كل يوم ويهددون ببناء الهيكل فوق أنقاضه، فقد كان الأحرى بقمة الجزائر أن تقترح وسائل جديدة أكثر جدية وقدرة على توفير الحماية لمدينة القدس ولسكانها وللأماكن المقدسة فيها، بدلًا من الحديث عن مواصلة جهود ومساع قديمة ثبت فشلها وعدم جدواها.
الفقرة الرابعة: طالبت برفع الحصار المفروض على قطاع غزة ونددت باستخدام إسرائيل المفرط للقوة وبأوضاع الأسرى والمعتقلين، وجاء نصها كالتالي: “المطالبة برفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة وإدانة استخدام القوة من قبل السلطة القائمة بالاحتلال ضد الفلسطينيين، وجميع الممارسات الهمجية بما فيها الاغتيالات والاعتقالات التعسفية والمطالبة بالإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين، خاصة الأطفال والنساء والمرضى وكبار السن”. وفي تقديري أن هذه الفقرة تعكس بوضوح تام حالة العجز والمهانة التي وصل إليها العالم العربي، خاصة حين نتذكر أن دولًا عربية تشارك في الحصار المفروض على قطاع غزة. لذا يمكن القول إن هذا النوع من “المطالبات” لم يعد مجديًا ولن يستطيع أن يغير شيئًا على أرض الواقع الراهن، والذي تفرضه موازين قوى مختلة ينبغي العمل على تغييرها.
الفقرة الخامسة: تتحدث عن ضرورة دعم الجهود الرامية لتمكين فلسطين من الحصول على عضويتها كاملة في الأمم المتحدة ومحاسبة إسرائيل على الجرائم التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني، وجاء نصها كالتالي: “التأكيد على تبني ودعم توجه دولة فلسطين للحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، ودعوة الدول التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين إلى القيام بذلك، مع ضرورة دعم الجهود والمساعي القانونية الفلسطينية الرامية إلى محاسبة الاحتلال الإسرائيلي على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها ولا يزال في حق الشعب الفلسطيني”. وربما تكون هذه الفقرة هي الوحيدة التي تحتوي على مبادرة عملية، خاصة إذا ربطناها بخطاب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في الجلسة الافتتاحية، والذي تضمن اقتراحًا بتشكيل لجنة اتصال عربية وتحدث عن استعداد الجزائر للمطالبة بعقد جلسة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة لبحث هذه القضية. وتكمن أهمية هذا الاقتراح في أنه قد يساعد بالفعل على إعادة وضع القضية الفلسطينية من جديد على جدول أعمال المجتمع الدولي. غير أنه يجب أن يكون مفهومًا أن الجمعية العامة للأمم المتحدة لن تستطيع حسم هذه المسألة بمفردها. فحتى بافتراض نجاح التحرك الدبلوماسي العربي في تأمين الأغلبية المطلوبة في الجمعية العامة لتبني قرار يطالب بقبول فلسطين عضوًا كامل العضوية في الأمم المتحدة، فسوف يستحيل تجاوز مجلس الأمن في هذه المسألة. فلقبول عضوية دولة جديدة في الأمم المتحدة، ينبغي أن تصدر أولًا توصية من مجلس الأمن ثم يعرض الأمر بعد ذلك على الجمعية العامة لاتخاذ قرار بأغلبية الثلثين. ولأن صدور توصية بهذا المعنى من مجلس الأمن يبدو مستحيلًا، بسبب الفيتو الأمريكي المتوقع، وربما البريطاني والفرنسي أيضًا، فقد لا يتمكن العالم العربي من تحقيق هذا الهدف في ظل استمرار الأوضاع الدولية والإقليمية الراهنة على ما هي عليه. غير أن الأمر يستحق المحاولة لأنه سيثبت جدية الدول العربية في خوض معركة دبلوماسية كبرى من أجل فلسطين.
الفقرة السادسة: تضمنت ترحيبًا بالجهود المبذولة لوضع حد للانقسامات الفلسطينية، وجاء نصها كالتالي: “الإشادة بالجهود العربية المبذولة في سبيل توحيد الصف الفلسطيني والترحيب بتوقيع الأشقاء الفلسطينيين على “إعلان الجزائر” المنبثق عن “مؤتمر لمّ الشمل من أجل تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية”، المنعقد بالجزائر بتاريخ 11-13 أكتوبر 2022، مع التأكيد على ضرورة توحيد جهود الدول العربية للتسريع في تحقيق هذا الهدف النبيل، لا سيما عبر مرافقة الأشقاء الفلسطينيين نحو تجسيد الخطوات المتفق عليها ضمن الإعلان المشار إليه”. ولأن اتفاق المصالحة الذي تم التوصل إليه في الجزائر قبيل انعقاد القمة ليس هو الأول من نوعه، حيث سبقته اتفاقات كثيرة مماثلة، لا توجد أي ضمانات على أن هذا الاتفاق بالذات سيلقى مصيرًا مختلفًا. صحيح أن الجهد الذي بذلته الجزائر في هذا السياق يستحق الإشادة، غير أن إنهاء الانقسام الفلسطيني يحتاج إلى تضافر كل الجهود العربية، وهي فريضة ما تزال غائبة للأسف الشديد.
نخلص مما تقدم إلى أن مجرد النجاح في عقد قمة الجزائر، بعد توقف دام أكثر من ثلاث سنوات، يعد إنجازًا في حد ذاته، لكنه سيظل إنجازًا محدود الفاعلية والتأثير، خاصة إذا ما قورن بحجم الدعم العربي الذي تحتاجه القضية الفلسطينية، ومن ثم لا يمكن اعتبار ما جرى قمة الجزائر نقلة نوعية للعمل العربي المشترك المطلوب لتمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على حقوقه المشروعة، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره وفي إقامة دولته المستقلة.