بقلم فابيان رورك، مساعدة في مركز النهضة الاستراتيجي
لا تحظى الصحة النفسية بالاهتمام الكافي، بل تُدفن تحت طبقات من وصمة العار والصمت. وتميل خدمات الصحة النفسية في الأردن إلى التركيز على العلاج النفسي –أي علاج ما يحدث بعد الأزمة- بدلًا من تناول الحواجز البنيوية والثقافية التي تمنع الناس من طلب الدعم النفسي في المقام الأول.
ومع عدم سعي 41% من الأشخاص في الأردن للحصول على دعم الصحة النفسية أو توقفهم عن ذلك جراء خوفهم من الوصمة المجتمعية، تستحق الرعاية الوقائية في هذا الشأن المزيد من الاهتمام (دكتور الضمور، وآخرون، 2020). من جهة آخر، قد تقلل النُهج التي تدعم الشباب للتفاعل مع هوياتهم، ومجتمعاتهم والحديث الصريح عن التحديات التي يواجهونها، من الحاجة إلى التدخل الطبي في الأمد البعيد، ومعالجة الوصمة النفسية في صميمها.
يوفّر الفن مساحة لجعل كل هذا ممكنًا. على سبيل المثال، تسعى المبادرات الفنية المجتمعية في الأردن إلى خلق طرق جديدة لتحدي المحرمات الاجتماعية، وتعزيز التواصل، وإعادة التفكير في دور الصحة النفسية خارج الإطار الغربي الطبي. تستكمل هذه التدوينة موضوع تدوينتي السابقة، التي تناولتُ فيها حالة خدمات الصحة النفسية في الأردن.
الفن والرفاه النفسي: لغة تتعدى الكلمات
لا يتعلق الرفاه النفسي بغياب المرض فقط، فهي الأساس الحقيقي للطريقة التي نفكر بها، ونشعر بها بالعالم، ونتفاعل معه –إن هذا الرفاه ضروري مثله في ذلك كمثل الهواء الذي نتنفسه أو حقيقة وجود الأرض تحت أقدامنا. ولذا، عندما يهتز هذا الأساس، وتتصدع المجتمعات تحت وطأة النزوح وعدم المساواة والصدمات، يكون حدوث ضائقة نفسية هو النتيجة.
من ناحية أخرى، فإن الفن هو اللوحة التي نعكس هذا الخلل من خلالها. سواء أكان ذلك من خلال الرسم، أو المسرح، أو الرقص أو الموسيقى، يسمح التعبير الفني لنا بمعالجة واقعنا، والتعبير عن هويتنا الثقافية وتأكيد ملكيتنا لسرديتنا. ومن دون الفن، لن نخسر الإبداع فحسب، بل سنخسر أيضًا طريقة أساسية لوجودنا في هذا العالم.
الفن والثقافة: كسر الحواجز في الأردن
أردنيًا، حيث تكافح مجتمعات اللاجئين من السودان، والصومال، واليمن وسوريا وغيرها من البلدان لبناء مكانتها وتسعى جاهدة لتأسيس شعور مجتمعي حيالها، يبني الفن جسرًا بين كل هذه الأطراف. تلتقط قصة “على كوكب سفر”، وهي قصة قوية ومؤثرة كتبها محمد حسين، لاجئ سوداني وعضو في الهيئة اليسوعية لخدمة اللاجئين، طريقة استخدام الفن لإعادة سرد هذا الواقع، إذ تتخيل القصة عالمًا في أزمة، تقسّم فيه الاختلافات الأشخاص بدلًا من أن توحدهم. وليس النضال من أجل التغلب على هذه الاختلافات واحتضان التنوع صراعًا خياليًا، إلا أنه أمر يعترض العديد من الأشخاص داخل الأردن وفي العالم.
سخرّت “الهيئة اليسوعية لخدمة اللاجئين” إلى جانب مبادرات أخرى مثل “سيناريو“، الفن ليكون أداة تغلبٍ على هذا الصراع، وخلق مساحات تسمح للناس بمشاركة القصص والتجارب فيها دون المعاناة من ثقل الحدود أو البيروقراطية، كما تذكرنا هذه المشاريع بأن الفن لا يمحو التجارب المختلفة ولكنه يسمح لها بالوجود دون أن تغدو مصدر انقسام.
الفن قوة صمود: نهج مناهض للاستعمار
غير أن الفن لا يبني المجتمعات وحسب، بل يقاوم محوها، ففي عالم يتحكم فيه الإرث الاستعماري في تحديد الثقافات التي ينبغي الاستماع إليها وتلك التي ينبغي إسكاتها، يغدو التعبير الفني عملًا سياسيًا يجري توظيفه لتشجيع تقرير المصير.
في فلسطين، مثلاً، يعد “مسرح الحرية” الذي تأسس في عام 2006 في مخيم جنين رمزًا للصمود، وهو يتجاوز كونه مجرد مسرح -إذ يرفض الاحتلال، ويعد وسيلة تُستعاد بها السردية الفلسطينية، وكرامتها وفضاءاتها. وكما قال أحد المؤسسين جوليانو مير خميس: “ما نفعله في المسرح ليس محاولة استبدال المقاومة الفلسطينية في نضالها من أجل التحرير أو أو أن نكون بديلًا لها، بل على العكس تمامًا. يجب أن يكون هذا الأمر واضحًا. […] إذ ننضم، وبكل الوسائل، إلى النضال الفلسطيني من أجل تحرير الأرض. لسنا معالجين. بل مقاتلين من أجل الحرية”.
كما لا يمكن فصل الصحة النفسية عن الهوية والتاريخ والنضال، فالتعامل معها بوصفها مفهومًا معزولًا لا يتعلق بالسياسة هو بمثابة تعزيز للأطر الاستعمارية ذاتها التي تحرم الناس من قدرتهم على الفعل في المقام الأول. ويتحدى الفن هذا الأمر إذ يقدم للشباب وسيلة يستعيدون بها أصواتهم، ويعبرون عن ماضيهم ومستقبلهم بطرق غالبًا ما تفشل النماذج الغربية للصحة النفسية في الاعتراف بها.
سُبل المضي قدمًا: احتضان المخاوف المحلية
لا يعني ما سبق وجوب إهمال الأساليب الحديثة للصحة النفسية -كالطب النفسي وخدمات الصحة النفسية، بل إن الواقع عكس ذلك تمامًا، إذ يجب تعزيز مرافق الصحة النفسية، مع توجيه المزيد من التمويل نحو الخدمات التي يمكن الوصول إليها وبأسعار معقولة للجميع. ولكن مع غياب المرافق الكافية لذلك، تتمتع المجتمعات بالقدرة على إنشاء مبادراتها الخاصة التي تعزز الصحة النفسية، والشعور بالتماسك الاجتماعي والانتماء بين أفرادها.
للأردن مكانته الفريدة، إذ وعلى عكس العديد من المجتمعات الغربية، يظل المجتمع محور الحياة اليومية في البلد. وبحسب خبير الصدمات بيسل فان دير كولك، فالمجتمع ضروري للصحة النفسية لأن “أدمغتنا خُلقت لمساعدتنا على العمل كأفراد في قبيلة” (فان دير كولك، 2014). ولإنشاء نظام صحي نفسي يخلو حقًا من الإرث الاستعماري، ينبغي على الجهات المعنية الدولية، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، مراعاة المخاوف المحلية واحتضان الثقافات والهويات والأفكار المحلية كذلك.
أيضًا، يتطلب كسر الوصمة المتعلقة بالصحة النفسية أكثر من مجرد رفع الوعي تجاهها؛ إذ يجب أن تدفعه الحاجات المحلية. وبما أن الأردن موطن فئات سكانية متنوعة تمر بتحديات واحتياجات مختلفة، لا بد أن تتبنى مبادرات الصحة النفسية نهجًا شاملًا يركز على أصوات الأشخاص الذين تهدف إلى دعمهم، ويوفر الفن وسيلة قوية لتحقيق ذلك.
المراجع:
- د. حسين ح. الضمور، د. معاذ ف. مراشدة، د. عرفات خليل الزعبي، د. مكسيم أ. عبيدات، د. مالك م. العلوان. “وصمة المرض النفسي في الأردن”. نيسان/أبريل 2020. مجلة الخدمات الطبية الملكية. المجلد 27. متاح على: http://rmsjournal.org/Articles/637272936889767110.pdf
- فان دير كولك، بيسل. الجسد يحتفظ بالنتيجة. دار نشر بنغوين راندوم هاوس، المملكة المتحدة: 2014.