الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

مأزق القيم المدنية ومستقبل المنظومة الليبرالية
بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

في محاضرة شهيرة للفيلسوف الروسي-البريطاني أشعيا برلين حول “الحرية” (1958)، نقرأ تمييزًا له دلالة هامة بين ما أطلق عليه “الحرية السلبية” المعتمدة في الفكر الليبرالي و”الحرية الإيجابية” التي بلورتها الاتجاهات الرومانسية المناوئة لأفكار التنوير. الحرية السلبية هي التي تتعلق بحماية الذات الفردية من تدخل وهيمنة الآخر، بينما تتعلق الحرية الإيجابية بتصور الفرد من حيث هو كائن فاعل متحكم في سلوكه، ونشاطه ومتمتع بإرادة خلاقة وفاعلة. التصور الأول هو الذي نلمسه لدى الفلاسفة الليبراليين المؤسسين وبصفة خاصة هوبز ولوك، بينما يرجع التقليد الثاني إلى جان جاك روسو وغدا له تأثير واسع في الأدبيات اليسارية والاشتراكية المعاصرة.

ليس هذا التمييز بالبعيد من أطروحة المفكر السياسي السويسري بنجامين كوستان الذي رسم حدًا فاصلًا بين “حرية الأقدمين” القائمة على المشاركة المدنية والفصل المحدود بين الحياة العامة، والحياة الشخصية دون تمديد فكرة الحرية لنطاق الأسرة والمجال الخاص، و”حرية المحدثين” التي ترتكز على حماية الدائرة الخاصة وبالتالي منح الأفراد من حيث هم ذوات حرة الأولوية على الوضع الجماعي أو السلطة العمومية.

لقد بنت الفيلسوفة الألمانية الأمريكية “حنة آرندت” على هذه النظرية نتائج هامة في تشخيص الحالة السياسية للمجتمعات الليبرالية المعاصرة، ببروز البعد الاجتماعي في النظام المدني من خلال محورية العامل الاقتصادي الذي كان في العصر اليوناني داخلًا في النطاق الخصوصي والعائلي، ومن ثم يمكن للإنسان أن يتجرد من الهموم المادية ليتفرغ لشؤون المواطنة والمشاركة في تسيير المدينة. أما في المجتمعات المعاصرة، فقد أصبح تسيير الاقتصاد محور الشأن العمومي، وغدت السياسة نمطًا من التدبير المنزلي بالمفهوم الواسع، بما يعني عمليًا انتفاء ثنائية العام والخاص الأصلية.

الخاص بالمفهوم الجديد هو الحميمي الشخصي الذي يحتفظ به في السر، بعيدًا عن أعين الناس، بينما العام هو الإدارة العقلانية للحياة المشتركة بما يختلف عن المفهوم القديم للسياسة كقرار حر، ونمط حكم مثالي وقويم للجماعة.

السؤال الذي يتعين طرحه في ضوء هذا الانتقال من حرية الأقدمين القائمة على المشاركة المدنية إلى حرية المحدثين القائمة على الذاتية الفردية التي تتجسد أساسًا في نموذج التسيير الاقتصادي هو: هل تشكل مرجعية الحرية السلبية (أي الفردية السيادية) مقومًا كافيًا لمجتمع متضامن وجيد التنظيم؟

رغم أن هذا السؤال ليس بالجديد، لكنه مطروح بقوة في أيامنا في سياق الجدل المتجدد حول تركة الليبرالية الحديثة في المجتمعات الديمقراطية الراهنة.

لهذا الجدل جذور فلسفية قديمة ترجع إلى جان جاك روسو الذي انفرد بفكرة “الإرادة المشتركة” بين فلاسفة العقد الاجتماعي، مميزًا هذا النمط من التضامن الصلب القائم على أسس قانونية مدنية عن الإرادة الفردية الذاتية، والإرادة الجماعية التي هي حصيلة الخيارات الفردية. ما يميز الإرادة المشتركة عن التوافقات الناتجة عن مسار الميثاق التعاقدي بالمفهوم الليبرالي الكلاسيكي (هوبز ولوك) هو كونها تصدر عن سيادة الشعب من حيث هو جسم سياسي عضوي يقوده “الخير المشترك” وليس المصلحة الظرفية.

والواقع ان الفكر الليبرالي لم يستطع طيلة ثلاثة قرون حسم هذا الجدل المتصل بالعلاقة الممكنة بين مبدأ الحرية الفردية المطلقة أو مثال “الاستقلالية” و”الرشد” (حسب الاصطلاحات الكانطية)، وطبيعة المجتمع السياسي في انتظامه وتماسكه من حيث هو حصيلة مسار التوافق أو الإجماع الذي يحققه جمهور يتشكل من إرادات ذاتية مستقلة.

لقد كانت نظرية “القانون الطبيعي” هي الإطار التصوري لتفسير هذه العلاقة بافتراضها مسلمة تطابق القانون المدني الناتج عن التوافقات الإجرائية للمجتمع السياسي المنظم مع المقومات العقلانية للحق المطلق، مع ما ينتج عن هذه الرؤية من خروج عن الفكرة الموجهة للتقليد الليبرالي: الطابع الاختراعي المصطنع والتاريخي للحالة المدنية.

إلا أن الفكر الليبرالي تدرج في مسار متصل للفصل الجذري بين مقتضيات العدل في دلالته الإجرائية المسطرية التي يقتضيها واقع التعددية الفكرية، والقيمية للمجتمعات الحديثة ومثال الخير الجماعي المشترك الذي هو إطار أخلاقي ومعياري، لا يمكن أن يكون مدار توافق عمومي.

النتيجة الكبرى لهذه الرؤية هي تحويل القانون إلى معايير وضعية منفصلة عن كل محددات طبيعية أو عقلانية، واختزال السياسة في إجراءات التسيير، والتنظيم، والتحكيم وفق النموذج الاقتصادي أو التقني (حسب ملاحظات كارل شميت).

إلا أن المنعرج الكبير الذي دشنته نظريات العدالة بداية من سبعينيات القرن الماضي فرض على الفكر الليبرالي إعادة طرح سؤال العلاقة بين التوافقات السياسية المشتركة، وقيم العيش الجماعي المستندة إلى معايير وقناعات جوهرية.

لقد فرضت تحولات المجتمعات الليبرالية هذه الإشكالية المتجددة لثلاثة أسباب أساسية هي: حركية التعددية الثقافية والدينية الناتجة عن واقع الهجرات المتزايدة، وتطور مدونة الحقوق التي اتسعت لمجالات متنوعة ترتبط بالقضايا الأخلاقية النوعية، ونضوب المنابع الأيديولوجية للتيارات الليبرالية الحديثة بما أعاد فتح المسألة القيمية في الحقل السياسي.

في سياق هذا النقاش، برزت داخل التقليد الليبرالي أطروحتان أساسيتان هما: أطروحة “الإجماع التركيبي” التي وضعها الفيلسوف الأمريكي جون رولز لحل معضلة تنوع أنساق الدلالة والقيمة في المجتمعات التعددية المعاصرة بما يفرض التوافق على قناعات موزونة دنيا على أساس عقلاني وتداولي مفتوح، وأطروحة “المواطنة المتعددة ثقافيًا” التي بلورها الفيلسوف الكندي “ويل كيمليكا” في إطار مطلب “الاعتراف” والدمج الذي تفرضه تحديات التعددية المجتمعية القائمة.

ليس من همنا بسط القول في هذا الجدل الفلسفي السياسي المتشعب، وإنما حسبنا الإشارة إلى أن الخطاب الليبرالي الراهن يواجه معضلات متزايدة بخصوص تراجع القيم الحقوقية والمثل الإنسانية التي ارتكزت عليها المدونة الليبرالية الكلاسيكية واستطاعت مدة قرون التغطية على إجراءات التسيير التقني والنفعي التي حددت مجال السياسية في دلالتها الحديثة. وما نعيشه راهًنا هو الاتجاه إلى عودة الأصوليات الدينية المحافظة لسد هذا الفراغ في تحالفها مع النزعات القومية المستبدة والعنيفة، بما يولد تحديات كبرى على مستقبل المنظومة الليبرالية نفسه