لا نعني هنا بالصهيونية الدينية النزعات المتشددة المتعصبة من أحزاب متطرفة تنتمي حاليًا للحلف الحاكم في تل أبيب، وإنما نعني مسلكًا فكريًا مناوئًا للصهيونية القومية السياسية التي بلورها هرتزل وبناة الدولة في إسرائيل.
مارتن بوبر، الفيلسوف ذو الأصول النمساوية الذي درس الفلسفة الألمانية وهاجر إلى فلسطين عام 1938 وأصبح أستاذًا مرموقًا في جامعة القدس وتوفي سنة 1965، يمثل هذا التوجه بعد انفصاله المبكر عن مؤسس الأيديولوجيا الصهيونية ثيودور هرتزل الذي كان في البداية على علاقة وثيقة معه.
ليس من همنا الحديث عن فلسفته الأخلاقية التي عرف بها، وإنما سنكتفي بالوقوف عند مواقفه من المسألة الصهيونية وموضوع الصراع العربي الإسرائيلي من خلال كتابه “أرض لشعبين” (A land of two peoples) الذي يضم مقالاته العديدة في الموضوع.
ومن الواضح أن بوبر وإن كان يتبنى فكرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي هي أساس المشروع الصهيوني الأصلي، إلا أنه يحرص على ألا تكون في شكل النزعة القومية السياسية، وألا تكون على حساب العرب من سكان الأرض التي يعيشون فيها.
الصهيونية التي يتبناها بوبر هي نمط من النزعة اليهودية الروحية التي لا تتأقلم مع الفكرة الحديثة للدولة السيادية الوطنية المجسدة لروح الشعب وفق المصطلحات الهيغلية. إنها تصدر عن العقيدة الأرثوذكسية الحسيدية وتتبنى رؤية غير سياسية للرابطة الجماعية الروحية، حيث تكون الأولوية للمقتضيات الأخلاقية على محددات السلطة والقوة.
إن هدف “إعادة بعث إسرائيل” بالنسبة لبوبر لا يمكن أن يتم عن طريق المقاييس السياسية الحديثة أي بناء الدولة القومية وفق المبدأ الولسوني الشهير الذي يكرس حق تقرير المصير للأمم ضمن كيان قانوني معترف به دوليًا. الانبعاث الذي يتحدث عنه بوبر يتم من خلال الرجوع للتراث اليهودي الأصلي حيث التوتر القائم دومًا بين منطق الحكم ومقتضيات العدالة المطلقة التي هي مضمون رسالة أنبياء بني إسرائيل. إن الأمة المصطفاة هنا هي الجماعة الربانية التي تتجسد في القيم الإنسانية السامية، وما يسميه “الجوهر الأزلي” ينبثق من عمق العلاقة الأخلاقية بين الأفراد، ضمن محددات الغيرية التي تبلغ مداها في ارتباط الإنسان بالإله عبر الوحي المنزل.
ومن هذه المنطلقات يرى بوبر أن الصهيونية السياسية تتعارض في العمق مع التراث اليهودي الأصلي، وتفضي إلى التضحية بجوهر الدين من أجل الدولة التي تحولت إلى صنم معبود. إن رسالة النبي موسى الحقيقية هي أن الأرض لا يملكها إنسان، وأن السيادة ليست لبشر في هذا العالم، وما كرسته الصهيونية السياسية هو بناء أيديولوجيا قومية تنتهك روح ونص هذه الرسالة الدينية اليهودية المقدسة.
من هذا المنظور العقدي الروحي، يرى بوبر أن الصهيونية السياسية لا علاقة لها بالرسالة الدينية، بل هي مجرد نزعة قومية استعمارية على الطريقة الأوروبية الحديثة، ولا يمكن الدفاع عن هدفها الأقصى الذي هو طرد السكان الأصليين للأرض باسم مفاهيم دينية محرفة.
وقد كان بوبر شديد الاعتراض على قيام دولة خاصة باليهود في فلسطين، ويرى أن شكل الدولة الوطنية ـالسيادية خطر مستقبلي على اليهود الذين عليهم أن يتعايشوا بسلام وأمان مع الفلسطينيين في إطار كيان واحد لشعبين، قابل للاندماج في المحيط العربي الأوسع.
لقد وقف بوبر ضد إعلان الدولة الإسرائيلية سنة 1948 وكتب في مقال من وحي الحدث أن الأيديولوجيا الصهيونية تريد فرض الحالة الاعتيادية الطبيعية للشعب اليهودي، بما يتعارض مع مساره الطويل المتسم بالشتات والهجرة، وهما من المحددات الروحية العميقة للشخصية اليهودية. بالنسبة له، لا يمكن أن تتخلص الدولة القومية من العنف، والرعب والعدوانية، ومن ثم فإن الحالة الإسرائيلية مفضية حتمًا إلى تأجيج الكراهية داخليًا وخارجيًا، وشن الحروب والصراعات المدمرة التي ستنتهي إلى إفقادها معانيها وخصوصياتها الأخلاقية المميزة. وعلى غرار كل الدول القومية، لن ترى إسرائيل الخطر والعدوان إلا في العدو الخارجي، بما يعميها عن بؤر التوتر والعنف في الداخل، فتتحول إلى كيان عدواني ضد الآخرين. إن إسرائيل حسب عبارات بوبر “فقدت روحها” يوم تأسست الدولة، وقد اختارت حينها القوة على العدل والانكفاء الطبيعي على الاصطفاء والتميز.
لقد توفي بوبر عام 1965، أي قبل سنتين من الحرب التي تلاها الاحتلال الإسرائيلي للقدس، والضفة الغربية وغزة، لكنه عاصر العدوان الثلاثي 1965 وعبر عن استيائه من موقف “بلاده” من الهجوم على مصر، وحذر من النزعة التوسعية العسكرية الإسرائيلية التي رأى أنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض ما بقي من مضامين أخلاقية في الرسالة اليهودية.
لا يبدو أن آراء بوبر كان لها تأثير كبير في الساحة الإسرائيلية، رغم وجود طائفة يهودية حسيدية قوية حاليًا، تتشبث بالموروث الأرثوذكسي اليهودي وترفض الدولة القومية الصهيونية من منطلقات روحية وعقدية.
انتصرت الصهيونية السياسية التي بلورها هرتزل واعتمدها بن غوريون ومن تلاه من قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين، ووصل الأمر حد قيام نزعة صهيونية دينية شديدة الولاء للدولة القومية، وشديدة التعصب لفكرة “دولة الشعب اليهودي” التي قننت دستوريًا سنة 2008.
لقد ظل لبوبر حضور قوي في الفلسفة اليهودية، لكن أفكاره حول الدولة مزدوجة البناء القومي أهملت كليًا في الخطاب السياسي الإسرائيلي واعتبرت مجرد أفكار طوبائية مثالية غبر قابلة للتطبيق في الواقع العملي.
ليس من همنا تقويم الجانب الفلسفي من فكر بوبر الذي يستند إلى قراءة أخلاقية لما سماه بالنزعة الإنسانية العبرانية، وإنما كان غرضنا التنبيه إلى ما بيّنه بوبر من أن الصهيونية السياسية تستخدم الرمزية الدينية غطاء أيديولوجيًا لتوجه قومي متعصب وعنيف يقوم على منطق القوة والعدوان، بما يجعل من الدولة الإسرائيلية حالة مغايرة في المنبع والهدف عن العقيدة اليهودية الأصلية. لقد نجحت الصهيونية السياسية في استتباع المؤسسة الحاخامية التي عارضت منذ البداية مشروع “الدولة القومية اليهودية”، لكن أفكار بوبر بدأت تعود تدريجيًا إلى الحقل الديني بعد أن أصبح من الواضح أن الدولة في إسرائيل عبء ثقيل على الملة.