مقولة ما بعد الكولونيالية أو ما بعد الاستعمار هي الترجمة المألوفة لعبارة Postcolonial Studies التي تحيل إلى اتجاه متنام في البحوث الإنسانية والاجتماعية، ليس في العالم الجنوبي وحده بل في الغرب أيضًا.
في كتاب هام حول الموضوع، يبين الفيلسوف والمؤرخ الكاميروني أشيل بمبة أن ما ندعوه بالدراسات ما بعد الكولونيالية هو في الحقيقة اتجاه شديد الاختلاف الداخلي والتنوع الفكري، يجمع بين أدبيات نقد الاستعمار، والهيمنة الغربية والأطروحات الفلسفية الغربية، التي هدفت إلى نقد مسارات الحداثة والتنوير في الغرب نفسه. ومن هنا، تركز هذه الدراسات حول إشكالات محورية في الفكر النقدي الأوروبي مثل موضوعات العقل والإنسانية والكونية.
في هذا السياق، يتم الكشف عن الارتباط العضوي بين السلطة القمعية الأحادية ونمط من التصور الكلي التاريخاني للعقل، وبين النزعة الإنسانية وتجارب الإبادة الجماعية للآخر المحتل، كما ظهر مبكرًا في كتاب المفكر والأديب المارتنيكي أميه سيزير “خطاب حول الحالة الاستعمارية”.
لقد كان لكتاب إدوارد سعيد “الاستشراق” تأثير كبير في نشأة “الدراسات ما بعد الكولونيالية” بكشفه عن التمثلات والصيغ الرمزية والخطابية للهيمنة الاستعمارية التي لم تكن مجرد ظاهرة تحكم قهري عنيف. والواقع أن الاستعمار استخدم العلوم، والفلسفة والأدب، في بناء ثقافة تلائمه وتكرسه في متخيل الشعوب المغلوبة، وفي مقدمة هذه الأساليب التقسيم العنصري العرقي للبشر الذي توقف عنده فرانتز فانون في كتابه “الجسد الأسود، الأقنعة البيضاء”.
إن هذا التقسيم العنصري الإقصائي هو الخلفية العميقة للنزعة الإنسانية الأوروبية التي تحصر الكونية في الرجل الأبيض وتاريخه الخاص محولًا إلى قانون شامل لمسار البشرية. لقد اتضحت هذه الصورة لدى فيلسوف التاريخ الأهم هيغل الذي اعتبر أن الاستعمار امتداد طبيعي للحداثة الأوروبية في حاجتها الحيوية إلى التمدد عالميًا.
وهكذا يغدو من الواضح أن مواجهة الاستعمار ليست عملية مقاومة عسكرية أو مجهودًا تحرريًا سياسيًا وقانونيًا، بل تقتضي استراتيجية فكرية كاملة لا تكتفي بتصحيح الصورة التي طمسها المحتل، بل الهدف الأساسي منها هو إعادة بناء القيم العقلانية والإنسانية الكونية التي جرفها العقل الكولونيالي في اتجاهه المركزي.
عادة ما يميز الباحثون في الدراسات ما بعد الكولونيالية بين محطتين تأسيسيتين لهذه المدرسة: محطة تمهيدية أولى بدأت مع الكتّاب الذين وقفوا ضد الهيمنة الغربية خلال الحقبة الاستعمارية. هنا تحضر أعمال فانون وسيزير التي أشرنا إليها، ولكن يمكن أن نضيف إليها جيلًا واسعًا من الكتاب الأفارقة والآسيويين الذين عالجوا الظاهرة الاستعمارية في إطار استراتيجية نقد الهيمنة والتحكم المركزي، ودافعوا عن أطروحة الجنوب المستقل ورحبوا بمشروع باندونغ الذي كرس فكرة عدم الانحياز والدور الاستراتيجي والحضاري لما سمي وقتها بالعالم الثالث.
في عالمنا العربي، برزت كتابات المفكر الجزائري مالك بن نبي في حديثه عن “الفكرة الأفرو آسيوية” ونقده للقابلية للاستعمار، ونقد المفكر المصري “أنور عبد الملك” للاستشراق (مقالة “الاستشراق في أزمة” 1961) في إطار توجهه لمعادلة شرقية بديلة عن المحور الغربي، وكتاب المؤرخ التونسي هشام جعيط “أوروبا والإسلام” (صدر سنة 1978) .في كل هذه الكتابات، نلمس النقد المبكر للعقل الغربي في نظرته للآخر المختلف ثقافيًا وحضاريًا، بالكشف عن أدوات ومسالك الهيمنة الرخوة التي تستبطنها الضحية دون وعي أو إدراك.
إلا أن الجميع يتفق على أن الوثيقة النظرية الحقيقية للدراسات ما بعد الكولونيالية هي كتاب المفكر والناقد الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد “الاستشراق: الشرق كما اخترعه الغرب”. في هذا الكتاب الذي صدر بالإنجليزية عام 1978، وظف إدوارد سعيد مقولة “الهيمنة” الغرامشيّة في ما وراء النقد الاقتصادي الاجتماعي الذي كان سائدًا أوانها في أعمال سمير أمين وعبد الله العروي. لقد عالج سعيد النص الاستشراقي بصفته داخلًا في نطاق مركب المعرفة-السلطة، أي إرادة الحقيقة التي تحدث عنها الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو واعتبرها آلية من آليات القوة والهيمنة وإن كانت تتخذ شكل الخطاب النظري والإبداع الأدبي.
ومع أن إدوارد سعيد طبق منهجه على نصوص أدبية ثانوية تتعلق بالإسلام والمجتمعات العربية، إلا أن الكتاب تحول بسرعة إلى دليل منهجي لنقد المركزية الثقافية الغربية في سياقات أوسع وأشمل، بما ظهر بوضوح في أدبيات “دراسات التابع” Subaltern Studies التي غزت الجامعات الهندية والأفريقية قبل أن تغزو الجامعات الأمريكية التي تعرف راهنًا موجة “اليقظة”Woke وأفكار “العصيان الإبستمولوجي” و”النقد التقاطعي”.
إلا أن كثيرًا من مفكري النزعة ما بعد الكولونيالية حذروا من أطروحة “صدام الحضارات” التي بلورها المستشرق برنارد لويس وعالم السياسة صمويل هانتغتون، معتبرين أن مآلها الحقيقي هو حصر الثقافات غير الغربية في سجن الهوية الخانق، فالشرق أو الجنوب هما من آثار سياسة التصنيف الاستعماري ذاته، ومن ثم لا بد من الخروج من هذه الثنائيات العقيمة.
في هذا السياق، يبين أشيل بمبة أن الفكر ما بعد الكولونيالي لا يمكن أن يحارب بنجاعة المركزية الاستعمارية إلا من منظور إنساني كونيّ حقيقيّ، لأن منطلق الأفكار الاستعمارية الفعلي هو هذه العقلية الاختزالية التصنيفية للبشر التي هي الطريق إلى تسليع النوع الإنساني في شكل من الاستعباد والإقصاء الهوياتي، بما يعني أن الاسترقاق أو الزنوجة ليسا خاصين بالأفارقة بل هما وضع إنساني شامل. الكولونيالية هنا هي إذن حالة هيمنة، وسيطرة وإلغاء، غدت هي أفق الوضع البشري في عصر العولمة المنفلتة والحضارة التقنية الجديدة.
وهكذا يوظف مفكرو ما بعد الكولونيالية الأفكار الفلسفية الجديدة التي برزت في نقد السلطة الحيوية القمعية (ميشال فوكو وجورجيو أغامبن) من أجل نقد حالة القبض على الحياة، وترويض الأجسام وأنماط الوعي، في إطار تصور جديد للسلطة والحكم، يجعل من الإنسان المعاصر مهما كانت هويته وأصوله كائنًا خاضعًا للاستعمار والتسلط، بما يعني أن نقد الاستعمار هو في عمقه دعوة لتحرير الإنسان الحديث.