بقلم د. زيد عيادات، رئيس مجلس الأمناء في منظمة النهضة العربية (أرض)، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأردنية، باحث مشارك في المعهد الملكي للخدمات المشتركة RUSI، لندن
تستحكم في فهم وتحليل وتفسير السياسة الدولية من الناحيتين الجيواستراتيجية والأمنية، جملة من النظريات والسياقات الأكاديمية والفكرية القاصرة عن القبض على ماهية “الواقعية السياسية العقلانية”. كما يعتري تلك المقاربات وهنٌ منهجي بنيويّ يضعها خارج التاريخ وخارج العلم الحديث. تبدّى قصور تلك المقاربات والتفسيرات بما أنتجته من تصورات، وطروحات وتنظيرات عن التحولات الجيواستراتيجية الدولية والتنبؤات ببنية النظام الدولي وآليات عمله، ومسارات تحولاته، وتكوناته، وأطره الأمنية، ومؤسساته الاقتصادية ومكوناته الاجتماعية الثقافية. فشلت تلك المقاربات في فهم وتفسير أسباب التحولات الدولية ونتاجاتها، كما عجزت أيضًا عن التنبؤ بمسارات تلك التغييرات، وتأثيراتها، وانعكاساتها على ما يتوجب على الدول والفاعلين واللاعبين اتخاذه من تدابير استراتيجية وتكيفات أمنية، وهو الأمر الذي ينطوي على مخاطرة سياسية كبرى تهدد المصالح الوجودية للدول واللاعبين، وتشكل تهديدات أمنية مباشرة، عالية الكلفة وعصيّة على التكيف معها.
مفتاح فهم تحولات السياسة الدولية والإقليمية هو توظيف “علم التحليل الاستراتيجي الحديث” الذي يستند إلى منهجية علمية صارمة تنتمي إلى علم السياسة وتستمد جذورها من العلم الطبيعي والعلوم الاجتماعية، والاقتصاد وعلم النفس والتقنيات الحديثة، بما في ذلك البرامج الحاسوبية، والنماذج الرياضية والفيزيائية، وعلم البيانات الكبرى والتعلّم الآلي.
تُنبئنا هذه المنهجية أن النظام السياسي الدولي والتغيرات الجيواستراتيجية التي شكلت السياسة الدولية عشية انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي وما تلاها من حرب دولية على الإرهاب، وإعادة صياغة قواعد التجارة الدولية، وأسس الاقتصاد الدولي بخصوص توزيع الثروة والموارد والنفوذ، قد استقرت اليوم وآلت إلى ما بات يعرف بـ”عودة تنافس القوى الكبرى”، أو “تنافس القوى القديمة في عصر جديد”.
مبعث هذه التغييرات والتحولات وانتهاء النظام الدولي إلى ما انتهى إليه اليوم بعد مخاضات عسيرة، عنيفة ودامية أساسها هو التغيير الذي طال “الشيفرة الوراثية” وعصب السياسة الدولية: التغيير في مفهوم القوة ذاته من حيث الماهية، والبنية، والمكونات، والعلاقات والتوزعات. ويُعزى هذا التحول في مفهوم القوة في العلاقات الدولية إلى التغييرات القيمية والفلسفية التي تتحكم بتصورنا عن العالم من حولنا، وتصوغ فهمنا لحقيقة النظام الدولي وواقعه. وكذلك إلى التطورات العلمية في مجالات الرياضيات، والفيزياء، والهندسة وتطورات التكنولوجيا في العصر الثاني للآلة، والثورة الصناعية الرابعة، والجيل الثاني للسلاح النووي.
لذلك، فإنه وعلى الرغم من الضجيج الذي يُثار حول طبيعة النظام الدولي بالاستناد إلى المقاربات القديمة، وعلى الرغم من الهرج، والمرج، والضرب بالرمال وقراءة الكف فيما يتعلق بالتوزيع الجديد للقوة ضمن سياقات التحليل التقليدي القديم، فإنّ أيًا من تلك التحليلات لم يُقيّض له أن يتلمس ملامح العالم الجديد، ويتفهم تشكلاته وسياساته.
تتكون القوة في العالم اليوم من قوة صلبة، وناعمة، واصطناعية وسيبرانية. وتتوزع أنماطها إلى قوة كامنة، وقوة تحويلية وقوة ظاهرة فعلية. تتحدد طبيعة النظام الدولي بتحديد من يمتلك أكبر قدر ممكن من عناصر القوة تلك وأنماطها، وكيف تتوزع هذه القوة بين الدول والفاعلين.
ويبدو جليًا أن القوة بهذا المفهوم تتركز وبشكل لافت في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يمنحها مركز الصدارة والقيادة في النظام الدولي ويجعل منها القوة الأكبر وبلا منازع أو شريك. ويعتبر هذا الواقع الدولي المستقر وهذا الفهم لتوزيع القوى فيه الأمر الحاسم في تبني الولايات المتحدة الأمريكية لاستراتيجيتها الأمنية والدفاعية الجديدة. نتيجة لذلك، تتكيف القوى المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية مع هذه التغييرات وتتفاعل مع تلك الاستراتيجيات بما يضمن لها أمنها أولًا، ثم بما يمكنها من التنافس على مصادر القوة الجديدة من خلال إبداع سياسات واستراتيجيات بديلة. وغنيّ عن القول بالطبع، إن صعود القوى المنافسة، ونشأتها وقدرتها على النجاح في التنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية، يتحدد بالدرجة الأولى من فهمها لطبيعة هذه التغييرات والتحولات، ونجاعة وعلمية استراتيجياتها من حيث التعامل معها ثانيًا، ومن طبيعة وكيفية الردود الأمريكية على سياسات القوى المنافسة ثالثًا. لا غرابة إذن أن تكون مجالات التكنولوجيا الحديثة مثل الجيل الخامس من شبكات الاتصال، والأمن السيبراني، ومصادر الطاقة، والطاقة المتجددة وقواعد التجارة الدولية، ميادين تنافس سياسي دولي بامتياز.
وبالنظر إلى هذا العالم الجديد ضمن المقاربة العلمية العقلانية الواقعية، يتبدى لنا بوضوح لا يخالطه شك استعادة القوة العسكرية موقعها في صدارة الترتيب في مجالات التنافس الدولي. إن التدقيق بالأرقام والبيانات حول النفقات على النشاطات العسكرية وما يتصل بهذه النشاطات من تطوير، وتسليح، وتدريب، وتوزيع وتخطيط يظهر إعادة تشكل خارطة توزيع القوة العسكرية في العالم، وعودة العسكرة إلى موازين القوى الدولية على نحو أكثر حسمًا، خصوصًا بدخول التقنية الجديدة في الصناعات والأنشطة العسكرية. مرة أخرى، تحتل الولايات المتحدة الأمريكية موقع الصدارة والقيادة، بينما تلهث القوى المنافسة للحاق بها، وتقليص الفجوة مع التفوق العسكري الأمريكي الحديث الذي قد يؤسس لقرن أمريكي جديد.
وبالتدقيق في خارطة توزع المال والاقتصاد الدولية، يزداد العالم الجديد وضوحًا ويصبح فهمه أيسر. إن التشابك والتفاعل بين الجيواستراتيجي والجيو-مالي قد أعاد تشكيل ميزان القوى في العالم وركزّه في الولايات المتحدة بشكل لافت، حيث تلعب الشركات العملاقة دورًا حاسمًا في تشكيل خارطة المال الدولية إلى جانب سياسات التجارة، والاستثمار، والنقد وتوزيع الموارد، بما في ذلك المساعدات، والعقوبات والتعريفات الجمركية، باعتبارها أدوات الهيمنة المالية.
أما توزعات القدرات السيبرانية والذكاء الاصطناعي ونتاجات الثورة الصناعية الرابعة، فهي ترسم خارطة متكاملة المعالم للجيو-تقنية الدولية. ستحدد تطبيقات الذكاء الاصطناعي واستخداماته في المجالات العسكرية، والمدنية، والطبية، وتكنولوجيا التعلّم الآلي وإنترنت الأشياء قواعد لعبة تنافس القوى القديمة في العصر الجديد. وبينما يبرز الفضاء السيبراني وأمنه باعتباره ميدانًا للتهديد وأداة للتفوق، فقد يعمل التنافس في هذه الميادين على تمهيد الطريق إلى نشوب “حرب التكنولوجيا” والتي تشكّل المفردة الأولى في تنافس القوى القديمة في هذا العصر الجديد. آن الأوان لتجاوز المقاربات القديمة، إذ يتطلب العالم الجديد أدوات جديدة لفهمه، وتفكيك رموزه والعيش فيه بكرامة.