ميشال هويكورن أديبة وفيلسوفة بلجيكية، أصدرت كتابًا مهمًا بعنوان “فلسطين المغتالة: التطهير العرقي الذي أرادته الصهيونية منذ القرن التاسع عشر”. في هذا الكتاب الموثق، ترجع المؤلفة إلى أعمال المؤرخين الإسرائيليين الجدد مثل بابيه، وفلنكشتاين وصاند في دراساتهم التي كشفت زيف أساطير الدعاية الصهيونية بخصوص أحداث النكبة وقيام الدولة الإسرائيلية، وقد أضافت إليها المؤلفة المعاينة المباشرة والتحقيق الصحافي الدقيق، مستلهمة عبارات الزعيم السياسي الجنوب الإفريقي ديسمون توتو “الحياد إزاء الظلم هو اختيار لمعسكر الوضع القائم”.
في الكتاب؛ ترجع المؤلفة إلى ظروف تشكل المشروع الصهيوني لدى هرتزل، مبينة أن خصوصية هذا المشروع تبرز في كونه اختلق هوية قومية لشعوب لا شيء يربط بينها سوى الجذور الدينية العامة.
وهكذا؛ اخترعت الصهيونية فكرة أمة ممتدة عبر التاريخ السحيق، لها أصول عرقية مشتركة، رغم أن الأبحاث العلمية الموضوعية فندت هذه الأسطورة الوهمية. فلا وجود في التاريخ لأثر التهجير الروماني القسري لليهود ولا لمعتقدات الشتات والأرض الموعودة. فمن البديهي أن الغالبية المطلقة من اليهود الحاليين ليسوا أحفاد العبريين القدماء، بل إن هؤلاء الأحفاد هم الفلسطينيون العرب.
في هذا السياق، تبين المؤلفة أن هرتزل بحث لمشروعه عن أطر عملية، فعمل على دمجه في المقاربة الاستعمارية الأوروبية السائدة أوانها، ساعيًا حسب عباراته إلى خلق “الحاجز دون آسيا، ومركز الحراسة المتقدم ضد الهمجية.. يتوجب علينا تمثيل الحضارة الغربية”.
لقد كان هرتزل صريحًا في تعهده بطرد السكان العرب الأصليين ورفض انتمائهم للدولة الجديدة، بما يكرس هدف التطهير العرقي الذي كان حاضرًا منذ انبثاق المشروع الصهيوني.
لقد ارتبطت منذ بدايات القرن العشرين مطامح المؤسسة الصهيونية مع الاستعمار البريطاني، بما تجسد في وعد بلفور الشهير (1917) الذي أصدره وزير معادٍ للسامية عمل ما في وسعه لكبح الهجرة اليهودية إلى بلاده وتصدير المشكل إلى الشرق البعيد.
لم تكن المسألة اليهودية هي التي حركت السلطات الاستعمارية البريطانية أوانها، وإنما كان غرضها حسب المؤلفة هو الحفاظ على موقع استراتيجي مناسب يمكنها من التحكم في قناة السويس وطريق الهند.
وحتى بعد أن بدأت فظائع النازية ضد اليهود في أوروبا، ظل قادة الصهيونية غير متحمسين للهجرة اليهودية الكثيفة، مفضلين لجوء اليهود إلى بريطانيا، لأن المشروع الحقيقي هو بناء قاعدة استعمارية صلبة في فلسطين وليس مجرد ملجأ لليهود المضطهدين في أوروبا.
وقد ترددت معلومات موثوقة عن ضلوع المؤسسة الصهيونية مع الحكام النازيين في جرائم الهولوكوست، وذلك ما أكدته الفيلسوفة اليهودية الألمانية الأمريكية حنة آرندت في كتابها “إيخمان في القدس”.
لم تكن إذن المحنة اليهودية في أوروبا هي سبب إنشاء الدولة الإسرائيلية، بل إن التيار الصهيوني حمل هذا المشروع منذ القرن التاسع عشر، وعمل على فرضه بالقوة من خلال طرد السكان الأصليين، وحرق بيوتهم وقراهم وضم أرضهم.
لم يكن تقاسم الأرض مع الفلسطينيين خيارًا مقبولًا بالنسبة للقادة الصهيونية منذ الثلاثينيات، بل اعتبروا دومًا أن الأرض كلها حق لهم، إلى حد أن بن غوريون صرح سنة 1936 “إنني أدعم الترحيل الشامل، ولا أرى في الأمر عملًا غير أخلاقي”، مضيفًا أنه لا مكان لشعبين ويجب أن يتم طرد كل الفلسطينيين.
ومع أن قرار هيئة الأمم المتحدة 181 الصادر سنة 1947 منح الدولة اليهودية 55 بالمئة من أرض فلسطين الكبرى (رغم أن العرب كانوا وقتها 65 بالمئة من السكان)، إلا أن قادة الدولة وفي مقدمتهم رئيس الحكومة بن غوريون اعتبروا أن قرار التقسيم مؤقت وأن هدف السيطرة على كامل أرض فلسطين لا رجعة فيه.
في 10 آذار/مارس 1948، صدرت “خطة داليث” التي وضعت إجراءات عملية لتطهير عرقي واسع في المناطق الفلسطينية، تضمنت استخدام الأساليب الإرهابية العنيفة والأسلحة البيولوجية المحرمة، بما نجم عنه تدمير 500 قرية فلسطينية وتهجير نصف السكان في ستة شهور. ولقد بينت أعمال المؤرخين الإسرائيليين الجدد أن هذا التهجير القسري لم يكن نتاج السياسات الرسمية للدول العربية كما تدعي إسرائيل، بل كان حصيلة عمليات التطهير العرقي الذي مارسته العصابات الصهيونية والجيش الإسرائيلي.
بعد نهاية حرب 1948، أصبحت إسرائيل تسيطر على 78 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية، وتحول جل سكان البلاد إلى لاجئين ترفض الدولة العبرية منحهم حق الرجوع إلى مواطنهم الأصلية.
لم تكن إذن حرب 1948 حربًا دفاعية، بل كانت محطة طبيعية من مسار بدأ قبل عقود لفرض نمط من الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، يتحقق عن طريق الإرهاب، والترحيل القسري والتطهير العرقي.في خاتمة الكتاب، تتحدث المؤلفة عن تواطؤ الصمت الخطير حول الجرائم الصهيونية في فلسطين، حيث تستمر الإبادة الجماعية للسكان الأصليين منذ عقود طويلة دون إدانة أو استنكار. لقد لخص بيار ستانبول حقيقة الوضع بقوله إن الصهيونية كرست نمطًا “من الاستعمار الخاص، لا يريد إخضاع شعب ما بل طرده.. إنها نزعة قومية اخترعت شعبًا ولغة وأرضًا.. إنها تمويه هائل للتاريخ وللهويات اليهودية”.
لم يكن لهذا المشروع أن يتحقق دون تواطؤ القوى الاستعمارية الأوروبية، وفي مقدمتها بريطانيا التي لم تستخدم سلطة الانتداب الممنوحة لها دوليًا لتهيئة فلسطين للاستقلال وبناء الدولة، بل شجعت حالة الاستيطان العنصري والتطهير العرقي، وقد تلتها هيئة الأمم المتحدة في قراراتها الجائرة التي شرعت واقع الاستيطان الاستعماري، ثم البلدان الغربية التي رفضت الانحياز للحق والشرعية في فلسطين.تتساءل المؤلفة في نهاية كتابها: “هل يمكن أن تنشأ دولة فلسطينية في إقليم مقسم، مشتت الأنحاء، تمارس فيه سلطة الاحتلال التهويد المستمر والتطهير العرقي المتواصل، ولم يحصد فيه الفلسطينيون رغم مسارات السلم الطويلة سوى الوعود الزائفة؟”.
كتب الكتاب قبل الأحداث الأخيرة في غزة، بيد أنه قدم الرؤية الشاملة لما يجري في فلسطين، حيث تشكل الفظائع الحالية حلقة حاسمة في مسار التطهير العرقي الذي تبين كل المؤشرات أنه فشل فشلًا ذريعًا في تصفية القضية الفلسطينية.