ينتمي البشر في الدول المعاصرة إلى أصول عرقية، أو دينية أو مذهبية متباينة، ومن ثم فمن النادر أن توجد في عالمنا المعاصر مجتمعات إنسانية تتسم بالتجانس التام، خاصة بعد كل التغييرات التي أحدثتها الكشوف الجغرافية، والفتوحات الاستعمارية والثورات العلمية وتكنولوجية التي حولت العالم إلى ما يشبه القرية الكونية الواحدة. غير أن التنوع والاختلاف داخل المجتمع البشري الواحد لا ينفي إمكانية حدوث التعايش بين شرائحه المتباينة الأصول والمصالح، وتلك هي إحدى أهم الوظائف التي ينبغي على النظم السياسية أن تقوم بها، خاصة النظم الديمقراطية. ففاعلية أي نظام سياسي لا تقاس بسماته الشكلية (جمهوري أم ملكي، رئاسي أم برلماني أم مختلط… إلخ)، ولكن بمدى قدرته على إدارة التنوع بطريقة تسمح لمختلف الشرائح الاجتماعية بالتعايش والعمل معًا في وئام. غير أن المجتمع الإسرائيلي يختلف عن بقية المجتمعات البشرية المعاصرة، سواء بحكم طبيعته المصطنعة، أو بحكم أيديولوجيته السائدة والموجهة لمجمل تفاعلاته. فهو، من ناحية، مجتمع لم ينشأ نشأة طبيعية وتم تصنيعه من جانب القوى الاستعمارية المتحكمة في النظام الدولي في ذلك الوقت، للقيام بوظيفة محددة، ألا وهو فصل مشرق العالم العربي عن مغربه، والحيلولة دون قيام دولة كبرى تحل محل الإمبراطورية العثمانية المحتضرة، في منطقة تعد من أكثر مناطق العالم أهمية وحساسية على الصعيد الجيوساسي. وهو، من ناحية أخرى، مجتمع استيطاني توسعي قام على اغتصاب أراضي الغير وتحكمت في مسيرته أيديولوجية عنصرية تستمد أفكارها من أساطير دينية تروج لمقولة أن اليهود هم وحدهم “شعب الله المختار” وأن فلسطين هي “أرضهم الموعودة” التي ينبغي أن يعودوا إليها بعد مرحلة شتات امتدت لما يقرب من ألفي عام!! ولأنه لم يكن بمقدور أحد تعيين حدود “الدولة التوراتية” المنشودة، فقد كان من الطبيعي أن تصبح الدولة اليهودية التي أعلن عن قيامها عام 1948 مجرد نقطة انطلاق نحو الغاية النهائية، وهو ما يفسر نزعة إسرائيل التوسعية الكامنة في بنيتها، وحرصها الدائم على مد حدودها الجغرافية إلى أقصى ما تستطيع قوتها العسكرية أن تصل إليه.
فقد شهد المجتمع الإسرائيلي، منذ إعلان قيام الدولة اليهودية عام 1948، تطورات عميقة صنعتها حالة الاستنفار العسكري والأمني والميل الدائم نحو التوسع وضم أراضي الغير بالقوة، وذلك عبر سلسلة لم تنقطع من الحروب. ففي عام 1948 ادعت الحركة الصهيونية أنها قبلت بالحدود المرسومة في قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة عام 1947 كحدود دائمة لدولة إسرائيل، غير أنه سرعان ما تبين أن موقفها المعلن كان تكتيكًا خادعًا، وأن الحركة الصهيونية تصر على عدم تفويت أي فرصة تسنح لها لقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية، وهو ما حدث فعلًا في حرب 1948، والتي مكنت إسرائيل من توسيع رقعتها وزيادة مساحتها بنحو 50% عن المساحة المخصصة لها في قرار التقسيم، وأيضًا في حرب 1967 ، والتي مكنت إسرائيل من إكمال سيطرتها على كل فلسطين التاريخية واحتلال كل من الجولان السورية وسيناء المصرية في الوقت نفسه. ورغم الادعاء بأنها لا تنوي ضم الأراضي التي احتلتها في هذه الحرب، والاحتفاظ بها كرهينة إلى أن يتم التوصل إلى تسوية نهائية للصراع العربي الإسرائيلي، إلا أن التطورات اللاحقة أثبتت بما لا يدع مجالًا لأي شك أن إسرائيل ترفض تسوية تقوم على معادلة “الأرض مقابل السلام” وتفضل التوسع على تحقيق سلام دائم وشامل في المنطقة. صحيح أنها انسحبت من سيناء، لكنها لم تقدم على هذه الخطوة إلا بعد أن قبلت مصر نزع سلاح سيناء والتوقيع على معاهدة سلام منفردة، ولم تقبل أبدًا بإعادة الضفة الغربية كاملة لا للأردن ولا لمنظمة التحرير الفلسطينية، رغم إقدام الأخيرة على التوقيع على “اتفاقية أوسلو” عام 1993، ورفضت رفضًا قاطعًا في الوقت نفسه الانسحاب من كل الأراضي السورية المحتلة عام 1967، بل وقررت ضم مرتفعات الجولان وفرض سيادتها الكاملة عليها بعد فشل المفاوضات التي دارت عبر الوسيط الأمريكي عام 1999.
ولأن إسرائيل كانت وما تزال تعتقد أن موازين القوة في المنطقة تميل لصالحها بشكل حاسم، فقد صور لها غرور القوة أنها تستطيع ضم الغربية وتصفية القضية الفلسطينية نهائيًّا، مع الاستمرار في الوقت نفسه في تطبيع علاقاتها مع الدول العربية، وهو الانطباع الذي ترسخ لديها تمامًا عقب نجاحها في إبرام اتفاقيات أبراهام عام 2020. لذا يمكن القول دون تردد إن قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي باتت مقتنعة بأن الحدود الطبيعية للدولة اليهودية هي الحدود “التوراتية”، ما يؤكد أن نزعة إسرائيل التوسعية لن تتوقف قبل أن تتمكن من السيطرة على كامل الأراضي التي تعتقد قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي أنها ينبغي أن تمتد “من النيل إلى الفرات”. فمع كل موجة من موجات التوسع التي لم تنقطع، كان المجتمع الإسرائيلي يزداد نموًا وتنوعًا، بانضمام أعداد متزايدة من المهاجرين اليهود الجدد من مختلف أنحاء العالم، وبالتالي كانت مروحة تناقضاته الداخلية تتسع وتزداد عمقًا باضطراد. كذلك كان حال النظام السياسي الإسرائيلي، حيث راح نفوذ التيارات اليسارية والوسطية، وهي التيارات المؤسسة للدولة الإسرائيلية، ينحسر ويتلاشى تدريجيًّا بمرور الوقت وتنتقل مواقع القيادة فيه إلى تيارات أكثر يمينية وتطرفًا على الدوام، ممهدة بذلك الطريق أمام شخصية من نوع نتانياهو لقيادة النظام السياسي الإسرائيلي لأكثر من عشر سنوات، كما مهد الطريق في الوقت نفسه أمام التيارت الدينية الأكثر تطرفًا التي أصبحت تتحكم في حكومة نتياهو الراهنة. وهذا هو السياق الذي اندلعت فيه أزمة التعديلات القضائية التي استهدفت تقليص دور المحكمة العليا في النظام السياسي الإسرائيلي، وتمكين السلطتين التنفيذية والتشريعية من الهيمنة شبه الكاملة على السلطة القضائية.
حدة الاحتجاجات الغاضبة التي أظهرها الشارع الإسرائيلي في مواجهة هذه التعديلات، والتي لم تنقطع منذ بداية العام الحالي، تدل على أن تناقضات المجتمع الإسرائيلي التي تراكمت على مدى سنوات طويلة قد بدأت تنفجر في وجه الجميع وأصبح من الصعب على النظام السياسي الحالي احتواؤها، أو حلها أو إيجاد مخرج حقيقي لها. فقد عكست التعديلات القضائية المقترحة، من ناحية، حجم الفساد الذي أصاب بنية النظام السياسي الإسرائيلي، كما عكست، من ناحية أخرى، حجم المخاوف التي يمكن أن تترتب على احتمال تحكم الصهيونية الدينية في مصير حكومة نتانياهو الحالية. فقد اتضح أن أكثر العناصر فسادًا في الحكومة الإسرائيلية الراهنة، وعلى رأسهم نتانياهو نفسه، لها مصلحة شخصية في إقرار هذه التعديلات. فإقرارها يتيح لنتانياهو إمكانية الإفلات من الملاحقة القضائية، وبالتالي من احتمالات الإدانة والسجن، كما يتيح لشخصيات من أمثال درعي، رئيس حزب شاس المستبعد من الحكومة الحالية بسبب إدانته وسجنه في قضايا فساد، العودة إلى المنصب الإداري الذي فقده عقب تدخل المحكمة العليا، ما يجعل التعديلات القضائية تبدو في نظر البعض وكأنها وسيلة لتقنين الفساد في إسرائيل، كما يتيح أمام اليمين الديني المتطرف، من ناحية أخرى، فرصة لتغيير هوية المجتمع الإسرائيلي وإضفاء مسحة دينية عليه، من خلال إدخال تعديلات جوهرية على عدد من التشريعات المتعلقة بالمرأة، والأسرة، وحماية الحقوق والحريات الشخصية..إلخ.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن التعديلات القضائية المقترحة في إسرائيل تبدو وكأنها نتاج تحالف بين الفساد والاستبداد الديني، ما يفسر حجم وحدة الاحتجاجات التي تموج بها المجتمع الإسرائيلي، والتي وصلت إلى قطاع الجيش والأجهزة الأمنية، وتضع نتانياهو في موقف لا يحسد عليه. فنتانياهو، من ناحية، يؤيد التعديلات ويسعى لتمريرها إنقاذًا لرقبته وسمعته الشخصية، وهو، من ناحية أخرى، لا يستطيع المغامرة بتجميدها أو إلغائها، لأن ذلك قد يؤدي إلى انسحاب بن غفير من الائتلاف ويعرض حكومته بالتالي للتفكك والانهيار. لذا يتوقع أن يسعى بكل ما يملك من دهاء وقدرة على المناورة لتجنب حدوث هذا السيناريو مهما كان الثمن.
في سياق كهذا، يبدو المجتمع الإسرائيلي، ومعه النظام السياسي الذي يحكمه، وكأنهما وصلا معًا إلى مفترق طرق. فأغلبية المجتمع الإسرائيلي تدعم السياسات الحكومية الرافضة للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وقيام دولة فلسطينية مستقلة، دون أن تدرك بما فيه الكفاية أن هذا التوجه يصب لصالح اليمين المتطرف، خاصة اليمين الديني، لكنها تتمتع في الوقت نفسه بما يكفي من حيوية للتعبير عن رفضها التام لتحويل المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع “توراتي” تتحكم فيه تيارات الصهيونية الدينية من خلال نظام سياسي شبه تسلطي أو شمولي لا يحترم قاعدة الفصل والتوازن بين السلطات وتحرم فيه السلطة القضائية من التمتع بما يكفي من استقلالية تيح لها سلطة الرقابة القانونية على قرارات الحكومة وعلى تشريعات الكنيست.
ولأنها تناقضات تبدو غير قابلة للحل، يخشى أن تستمر الأزمة الراهنة في التفاعل إلى أن ينفجر النظام السياسي الإسرائيلي من داخله، ما لم يتمكن نتانياهو من الهروب إلى الأمام، بإشعال الحرب على إحدى جبهات المقاومة التي تحيط به من كل جانب. وحتى لو نجح في الهرب فسيكون ذلك لبعض الوقت فقط، ومن ثم فسرعان ما سترتد عليه تفاعلات الأزمة التي يتوقع أن تحكم الحصار المضروب حوله من جديد. لذا لا أستبعد شخصيًّا أن تكون الأزمة الراهنة هي البداية الفعلية لتفكك المشروع الصهيوني، وهو تطور يلقي على قادة المقاومة مسؤولية التعامل معه بالذكاء والحنكة المطلوبين. اتركوا هذه الأزمة تتفاعل داخل إسرائيل إلى أن تصل إلى مداها الطبيعي، ولا تتيحوا لنتانياهو أي فرصة للتهرب من المأزق الذي وقع فيه!