أكاد أجزم أن كتاب المفكر الأمريكي الشهير “فرانسيس فوكوياما” الصادر سنة 1992 بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” لم يقرأه إلا القليل من الناس، رغم شهرته وكثرة الإحالة إليه. لقد سمع الجميع بمقالة “نهاية التاريخ؟” المنشورة عام 1989، ولم يفهموا منها إلا أن فوكوياما اعتبر أن نهاية الحرب الباردة تعني انتصار النموذج الرأسمالي الليبرالي الذي أصبح الأفق الوحيد للبشرية في المستقبل، مع أن الرجل ظل متشبثًا بالروح التساؤلية، ولم يضع نظرية نهائية مكتملة.\
في الكتاب المنشور بعد ثلاث سنوات من المقالة ذائعة الصيت، فات الكثيرين جمع فوكوياما بين مقولة هيغل حول “نهاية التاريخ” وعبارة نيتشه “الإنسان الأخير” التي ترجع لسياق فلسفي مغاير، يتعارض مع الأطروحة الهيغلية التي طورها ألكسندر كوجيف في قراءته لكتاب “ظاهريات الروح” التي لم تنل إجماع قراء هيغل.
ليس من همنا الدخول في عمق الجدل الفلسفي حول نظرية الوعي الهيغلي في مساره الجدلي المكتمل في محطة الوعي المطلق التي تجسدها موضوعيًا في التاريخ الدولة الليبرالية الشاملة. ومن المعروف أن هيغل لم يستخدم في أي من أعماله مقولة “نهاية التاريخ” وإن تحدث عن معركة أيينا (انتصار نابليون على الدولة البروسية في تشرين الأول/أكتوبر 1806) بصفتها انتصارًا “لروح العالم”، وتحقق “نظام عسكري وقانوني جديد في أوروبا”.
ولعل نيتشه هو أول من أطلق على المقاربة الهيغلية عبارة “نهاية التاريخ” عندما كتب ساخرًا “إن هيغل يرى أن القمة العليا والنقطة النهائية للمسار الكوني يتطابقان مع نمط وجوده في برلين”. وقد ذهب إلى الملاحظة نفسها فيلسوف ألماني آخر هو كارل لويث، الذي اعتبر أن هيغل يقول باكتمال حركة التاريخ.
إلا أن المخترع الأساسي لمقولة “نهاية التاريخ” هو ألكسندر كوجيف الذي كان متأثرًا في قراءته لهيغل بالتوجهات الماركسية المسيطرة وقتها على الجامعة الفرنسية. ولعل مفهوم نهاية التاريخ أوضح لدى ماركس الذي تحدث عنه في كتابه “الرأسمال” للتعبير عن نهاية الصراع الطبقي، وقيام الانسجام التام بين الإنسان والطبيعة بعد الخروج من “عالم الضرورة” إلى “عالم الحرية”.
ومع أن فوكوياما استخدم عبارة “نهاية التاريخ” في سياق الاحتفاء بانتصار الليبرالية الغربية على الاشتراكية والماركسية، إلا أنه لم يعتبر هذا التحول نهاية الأحداث النوعية في تاريخ البشرية، بل إن توظيف مقولة “الإنسان الأخير” التي وردت في كتاب “هكذا تكلم زرادشت” دليل ملموس على الملاحظة.
مقولة “الإنسان الأخير” (Der Letzte Mensch) تعني لدى نيتشه الوضع العدمي الأقصى للإنسان المعاصر الذي لم يعد يهتم إلا برفاهيته وأمنه، وبالتالي فقد إرادة القوة والغرائز الاستعلائية المغامرة.
هل يكون إنسان ما بعد الحرب الباردة الشخص الحر السعيد، أم الإنسان الشقي الذي لم تعد له إرادة فاعلة ولا إحساس قوي بالحياة والعيش؟
تلك هي الإشكالية المعقدة التي يطرحها فوكوياما على عكس الانطباع السريع الذي كثيرًا ما يحرف ويبسط نظريته الشهيرة.
لقد اعتبر فوكوياما أن مسار التعقل يسير بالإنسانية لا محالة نحو النظام الأمثل الذي يكفل الحرية والعدالة، لكن الطبيعة الإنسانية لا تحركها فقط الدوافع العقلانية بل أهواء السيطرة والتغلب، أي ما تعبر عنه مقولة “التيموس” اليونانية أو “الميغالوثيميا” التي تحدث عنها نيتشه.
وهكذا يؤكد فوكوياما أن الديمقراطية الليبرالية لا يمكن أن تقضي على نوازع الأنانية الضيقة والانكفاء الخصوصي التي يمكن أن تشكل التحدي الأخطر الذي تعاني منها الأنظمة الديمقراطية نفسها. ولقد وفق فوكوياما في هذا التوقع الذي كان موضوع أعماله اللاحقة حول انفجار الهويات وأزمة النموذج الليبرالي.
ولا شك في أن فوكوياما كان واضحًا منذ كتابه “نهاية التاريخ” في قوله إن الديمقراطية قد تنجح في حل معضلة الحكم السياسي، لكنها غير مؤهلة لحسم الإشكالات القيمية والنفسية الكبرى للبشر. إنه يستعيد هنا ملاحظة حصيفة لليو شتراوس في نقده لكوجيف، باعتباره انطلق من مركزية صراع الاعتراف البشري في تشكل ذاتية الإنسان الحديث عبر تجارب العمل والصراع الاجتماعي، بحيث يكون الخروج من أفق التاريخ عبر الدولة الكونية الشاملة حالة مأساوية لا سعادة فيها ولا رفاهية، بل هي تدمير لإنسانية الإنسان ومؤهلاته الإبداعية والخلاقة. ومن ثم خلص شتراوس إلى وهم تحقيق تطلعات البشر القصوى من خلال النظم السياسية والاجتماعية.
لا يختلف رأي فوكوياما عن هذا التصور، وليس الخروج من التاريخ حدثًا سعيدًا بالنسبة له، حتى لو كان قضى على أعتى أنظمة الحكم استبدادًا وتسلطًا، وفسح المجال لدولة الحرية والقانون في مناطق كانت محرومة منها. لقد أدرك فوكوياما أن نهاية التاريخ ستنقل حدة الصراع السياسي والاجتماعي إلى قلب الليبراليات الديمقراطية التي تعيش أزمة اعتراف من منظور جديد هو وضع المجموعات الباحثة عن حقوق اختلافية تمييزية لا توفرها منظومة المعايير الكونية المتساوية، وهو الاتجاه الذي بدأ لدى اليسار قبل أن تتبناه التنظيمات اليمينية الشعبوية.
قبل سنوات، كتب الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه، الذي كان في السابق ماركسيًا ثوريًا كتابًا عن الموضوع نفسه، أي الخروج من التاريخ الذي اعتبره نهاية الريادة الفكرية والرمزية للغرب الحديث. فبالنسبة له، فإن الخروج من أفق التاريخ هو عودة حتمية للطبيعة في دلالتها العدمية الراهنة، كما تتجسد في تعميم منطق العقل الأداتي والثقافة الاستهلاكية والفردية النفعية، بما يتلاءم حسب رأيه مع موجة التطرف الديني، وانفجار الهويات القومية والعرقية التي غدت تهدد البشرية برمتها.
خلاصة الأمر، أن الوضع الراهن للعالم لا يمكن اختزاله في وهم “نهاية التاريخ” الذي هو الصورة السائدة المغلوطة لنظرية فوكوياما في جذورها الهيغلية المزعومة، بل هو تجسيد حي لحالة الإنسان الأخير بالمنظور النيتشوي الذي لا يتعارض مع الخروج من أفق التاريخ من حيث هو قطيعة مع القيم المرجعية الكبرى التي صاغت طيلة ثلاثة قرون نمط الكونية الإنسانية.