الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

أخلاقيات لعالم اليوم

مشاركة

قال إيمانويل كانط: اعْملْ وكأنك في فعلك الأخلاقي تشرّع للإنسانية. ولا عصر يصدق عليه قول الفيلسوف الألماني أكثر من عصرنا هذا وقد استجدّت فيه أوضاع بسبب الابتكارات العلمية والتكنولوجية، وبسبب الخلل في التوازن بين الإنسان والطبيعة. فابتكار الذكاء الصناعي، والبيولوجيا الحيوية، وفساد الهواء والمياه وتلوث البحار وتدمير الغابات، واكتظاظ المدن والزيادة الهائلة في سكان المعمورة، وانقراض أنواع من الكائنات الحية، كل هذا وغيره أصبح يهدّد نوعية حياة الإنسان بل وجوده على الأرض. كان الخير والفضيلة معيار الأخلاق، فاستحدث تطور البحث العلمي والابتكار التكنولوجي وخلل التوازن بين الإنسان والطبيعة هدفًا جديدًا وهو درء فساد حياة البشر بل إنقاذ وجودهم. وهكذا أصبح سلوك الإنسان أفرادًا وجماعات ودولًا وكأنهم يشرّعون للإنسانية جمعاء كما قال كانط.

الأخلاق شأن الفلسفة كما أنها شأن الدين. كلاهما يصنّفان أفعال الإنسان الأخلاقية صنفين: ما هو خير فيحضّان عليه وما هو شرّ فيجب اجتنابه. لكن الدين والفلسفة يختلفان في المصدر الذي يحدد الخير والشر. فهذا المصدر في الدين هو الله، فهو الذي شرع في دينه ما يجب أن تكون عليه أفعال الإنسان، من خير يُطلب أو شر يُجتنب. أما عند الفلاسفة، فالعقل هو مصدر معرفة الخير والشر، والفضيلة هي القيمة الأخلاقية الأولى، والإنسان الفاضل يسترشد في سلوكه بعقله الأخلاقي.

والدين والفلسفة يتفقان في أن غاية الأخلاق هي السعادة. وهي في الدين سعادة أُخروية، والمآل في الآخرة هو الذي يعطي المعنى والهدف من الحياة الدنيا، وسعادة الإنسان في الآخرة هي غاية أفعاله الأخلاقية التي هي أوامر دينية. والمؤمن يحدوه شيئان: الخوف والرجاء. فوازع أفعاله مخافة الله، ورجاؤه النجاة في الآخرة. أما السعادة عند قدماء الفلاسفة فهي أن يبلغ الإنسان كماله، وكماله هو الاسترشاد بالعقل في المعرفة والسلوك، لأن العقل هو ما يميز الإنسان عن الحيوان، فالإنسان يشترك مع الحيوان في طلب الغذاء والجنس، وعليه أن يضبط هاتين الشهوتين بالعقل.

وقد قسم أفلاطون النفس إلى قوى ثلاث، وتبعه في ذلك فلاسفة الإسلام: القوة الشهوانية، والقوة الغضبية، والقوة الناطقة أو العاقلة. والفضيلة الأخلاقية هي ضبط العقل للشهوتين الأخريين، فيضبط الأولى بالاعتدال والعفّة ضدًّا على الجشع والمجون. ويضبط الثانية بالحِلم والشجاعة ضدًّا على التهوّر والعدوان.

والعقل نفسه قد ينحرف بالخبث والمكر والخديعة. فلا بد إذن من تهذيب السلوك الأخلاقي بالمعارف العقلية الفلسفية فيتطبّع الإنسان بمعارفها ومبادئها ليكون فاضلًا ويبلغ السعادة.

الأخلاق إذن عند فلاسفتنا القدماء هي تهذيب نوازع النفس بالعقل ومعارفه الفلسفية، أو كما يقول يحيى بن عدي: “الخلُق حال للنفس به يفعل الإنسان أفعاله دون رويّة أو اختيار”، أي أن يهذب أخلاقه بالحكمة الفلسفية حتى يتطبّع بمكارم الأخلاق. فالفضيلة ليست طبعًا في الإنسان، بل هي تطبّع بالتهذيب. وهو ما يقوله أيضًا الفيلسوف المؤرخ مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق والذي غرضه “أن نحصّل لأنفسنا خُلقًا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة (…) ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي”. فالأخلاق إذن تهذيب، وهو ما يدل عليه عنوان كتابي ابن عدي ومسكويه وهما يحملان نفس العنوان: تهذيب الأخلاق.

الأخلاق والسياسة

الأخلاق عند الفلاسفة اليونان هي سياسة النفس، وهي أساس سياسة المدينة. فمدينة أفلاطون الفاضلة مكوناتها ثلاثة: طبقة المنتجين، وتقابل النفس الشهوانية، وطبقة حرّاس المدينة، وتقابل النفس الغضبية، والحاكم الفيلسوف ويقابل النفس الناطقة العاقلة. والعقل الفلسفي الذي يُدبّر به الحاكم الفيلسوف سياسة المدينة هو نفسه العقل الذي يدبّر الأخلاق فيهذب القوتين الشهوانية والغضبية ليتطبع الإنسان بالأخلاق الفاضلة.

إلا أن لفلسفة الأخلاق عند أفلاطون وأرسطو صلة بالفلسفة السياسية. صحيح أن مدينة أفلاطون الفاضلة هو نفسه يراها بعيدة التحقيق، ومع ذلك فقد خاض بفكره الفلسفي في سياسة المدينة. فقراءة محاورة الجمهورية تدلّ على ذلك. ففكرتها الأساسية هي العدالة في نظام المدينة. وهو ينقد الاستبداد ويفسر صعود طغاة إلى الحكم ممتطين الديمقراطية الشعبوية. ولم يكن أفلاطون يحب الديمقراطية لاسيما أن إعدام أستاذه سقراط كان في حقبة حكم الحزب الديمقراطي. وقد رفض دعوة مستبدين بالحكم في مدينته للانضمام إليهم وكان بعضهم من أقربائه. كما أن أرسطو لم يكن هو أيضًا يحب الشعب ولا الديمقراطية. وقد كتب كتابًا في السياسة وآخر في نظم اليونانيين أو دساتيرهم.

إلا أننا نفتقد هذا الارتباط بين فلسفة الأخلاق وفلسفة السياسة عند الفلاسفة المسلمين. فالسياسة تظل عندهم سياسة النفس، وليست سياسة المدينة أو الدولة. يقول يحيى بن عدي: “حقيق بالإنسان أن يسوس نفسه السياسة الحسنة (…) والمهذَّب الأخلاق رئاسته بفضائله، فهو رئيس ما دام، ومعظِّم لذاته لا لشيء من خارج”. الفيلسوف إذن رئيس نفسه بفضل فضائله فلا يتطلع إلى رئيس فاضل للمدينة أو الدولة. والسياسة عنده سياسة النفس بالفضيلة وحسب. مدينته الفاضلة في ذاته وليست خارجها.

وهذا ما أدركه ابن خلدون من مدينة فلاسفة الإسلام الفاضلة من أنها “ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع [مجتمع الفلاسفة] في نفسه وخلُقه حتى يستغنوا [الفلاسفة] عن الحكام رأسًا”. وهذا نفسه ما قاله ابن عدي كما أسلفنا.

لذلك لم يكن الإصلاح السياسي شاغل فلاسفة الإسلام، بل ظل شأن الفقهاء، سواء في الكتب التي وضعوها فيما سموه السياسة الشرعية، أو في كتبهم عن الأحكام السلطانية، والتي اعترفوا فيها بأن للسياسة منطقًا ليس بالضرورة أن يطابق أحكام الشريعة، وأن من له الشوكة (أسباب القوة) له شرعية الحكم، وليس الانتساب إلى قريش شرطًا لتقلّده الحكم حسب الحديث الذي يقول: “الأئمّة من قريش”.

أما الفلاسفة المسلمون فلم يجعلوا من فلسفتهم وسيلة لإصلاح نظام المجتمع والسياسة. ذلك لأن الفلسفة عندهم شأن الخواص، أي الفلاسفة الذين هم وحدهم القادرون على إدراك مداركها، وليست الفلسفة في متناول العامة القاصرة أفهامهم عن مداركها.

صحيح أن فلاسفة الإسلام ردّدوا ما قاله أرسطو من أن الإنسان مدني بالطبع، أي أنه لا يمكنه أن يعيش إلا في مجتمع لأن الفرد وحده غير قادر أن ينتج جميع حاجاته. إلا أن مدنية الإنسان عندهم اقتصادية، وليست سياسية كما هي عند معلّمهم أرسطو.

وابن رشد؟

إذا كان اهتمام فلاسفة الإسلام هو تدبير النفس وليس تدبير السياسة بمبادئ الفلسفة، فكيف نفسر إذن نقد ابن رشد لسياسة الدولتين المرابطية والموحدية والتي كانت الأندلس بلده تابعة لهما، والمآل الاستبدادي الذي آلت إليه هاتان الدولتان، وذلك في تلخيصه لجمهورية أفلاطون في كتابه جوامع سياسة أفلاطون؟ هو مثلا يتحدث عن تدهور نظام الحكم في دولة الموحدين (1121م-1269م) من حكم السادة، أي أعيان القبائل التي قامت عليها هذه الدولة. فبعد أن كانوا يحرصون على نوع من الكرامة وحسن السمعة، انقلب نظامهم إلى حكم استبدادي استولى على السلطة والثروة، يقول ابن رشد إن “الأموال المكتنزة في هذه المدينة [مدينته قرطبة] هي اليوم في حقيقتها أموال بيوتات، أعني أنها من أجل بيوت السادة. ولذلك فالجزء الأمامي [فئة السادة الحكّام] هو اليوم جزء التسلط بإطلاق”.

ويلخص ابن رشد ما قاله أفلاطون من أن الشعب قد يحمل إلى الحكم زعيمًا يعجب به فتتحول على يده الديمقراطية التي صعد باسمها إلى حكم استبدادي يتفرد فيه بالسلطة، وهو ما يسميه ابن رشد “وحدانية التسلط” فيقول: “ويتبين ذلك في المدينة الجماعية [أي الديمقراطية] في زماننا، فإنها كثيرًا ما تؤول إلى تسلط. مثال ذلك الرئاسة التي قامت في أرضنا هذه، أعني قرطبة بعد الخمسمائة [أي في عهد الدولة الموحدية] إلى التسلط”. فتحولت إذن هذه الدولة إلى حكم استبدادي في الأندلس كما في المغرب: “إن نهج المتسلّط هو نهج الذي هو في غاية الجور (…) كما هو الحال في هذه المدن”.

طبعًا لا مقايسة بين مدينة ابن رشد الجماعية وبين المدينة الديمقراطية اليونانية حين يحكمها حزب ديمقراطي. فهذه الأخيرة جاءت بنظام انتخابي لم يكن موجودًا لا في الدولة المرابطية ولا في الدولة الموحدية المغربيتين. إلا أن نقد ابن رشد للاستبداد الذي آل إليه الحكم في الدولتين المذكورتين هو نقد العاجز، فهو لا يقدّم بديلًا لهذا النظام، بل يرثي لحاله وقد أوجدته الأقدار في نظام تسلّطي استبدّ بالثروة والسلطة، يقول: “وإذا اتفق ونشأ في هذه المدن [الاستبدادية] فيلسوف حقيقي [كابن رشد] كان بمنزلة إنسان وقع بين وحوش ضاربة، فلا هو قادر على أن يشاركها فسادها، ولا هو بمأمَن على نفسه منها”. هو لا يذكر الخيار الثالث: أي التعويل على فكره الفلسفي لإصلاح النظام السياسي. ليس أمامه إذن سوى الشقاء بفكره وطلب السلامة لنفسه. قدَره إذن أن يعيش في مجتمع هو فيه غريب بل معرّض للاضطهاد. ألم يذكر هو نفسه أن “سفَلَة القوم” منعوه هو ووالده ذات يوم من الصلاة في مسجد بقرطبة؟

أخلاق لكل الناس

يتضح مما سبق أن مبادئ الأخلاق تُستنبط من الفكر الفلسفي. فالفلاسفة هم مؤسسو الفكر الأخلاقي. إلا أن الفلسفة هي شأن النخبة الفلسفية. لذلك ظلت عمومية الأخلاق شأن الدين، فهو وحده وضع أحكامًا أخلاقية لعموم الناس. إلا أن الفلسفة الأخلاقية الحديثة سعت إلى وضع مبادئ أخلاقية للناس جميعًا. فالأخلاق كما يقول كانط، أهم فيلسوف أخلاقي في العصر الحديث، لا تحتاج لا إلى علم ولا إلى فلسفة.

محور الأخلاق الكانطية هو الواجب، وفعله غاية في ذاته وليس لمصلحة أو منفعة. فالفعل الأخلاقي غاية لا وسيلة. بل الإنسان عند كانط غاية فلا يجوز استعماله وسيلة لأهداف “عليا” مزعومة.

والإنسان وهو يفعل فعلًا أخلاقيًّا فكأنه يشرّع للإنسانية جمعاء. فالقانون الأخلاقي قانون يشرعه الإنسان مسترشدًا بالعقل لعموم العقل العملي الأخلاقي. إلا أن القانون الأخلاقي يختلف عن القانون الطبيعي لأن هذا الأخير حتمي، في حين أن الفعل الأخلاقي مصدر الحرية. والحرية تحرير للإنسان من الرغبة والشهوة والأنانية، بالاسترشاد بالعقل.

والحرية مسلَّمة من مسلّمات العقل العملي الأخلاقي عند كانط، أي لا يمكن بالبرهان العقلي إثبات أن الإنسان حرّ في أفعاله. لكن الأخلاق تفترض حرية الفرد وهي المسلّمة الأولى. والإنسان لا يمكنه بلوغ الكمال الأخلاقي بل يسعى إليه، أي إلى إدراك الخير الأسمى. والله وحده هو الخير الأسمى. والإيمان بوجود الله هو المسلَّمة الثانية من مسلّمات العقل العملي الأخلاقي. والخير الأسمى لا يتحقق إلا في المطلق، وهو ما يفترض التسليم بالمسلّمة الكانطية الثالثة وهي خلود النفس.

ليس معنى هذه المسلَّمات أن الأخلاق عند كانط تؤول في نهاية المطاف إلى أخلاق دينية. فالأخلاق التي وازعها الدين تقوم على الخوف والرجاء، أي أن مخافة الله هي وازع الفرد لفعل الخير واجتناب الشر. والرجاء في حسن المآل في الآخرة هو ما يحسب له الإنسان الحساب في أفعاله الأخلاقية. لكن لا خوف ولا رجاء في الأخلاق الكانطية. فالإنسان يفعل الواجب لأنه واجب وليس لخوف أو رجاء.

المسلّمات الكانطية الثلاث لا يمكن البرهنة عليها بالعقل النظري الخالص، ما دام كانط قد استبعد الميتافيزيقا في كتابه العقل الخالص، بل هي مسلمات ضرورية يسلم بها العقل الأخلاقي العملي. والإنسان يفعل الواجب لأنه يحترم نفسه فلا يرضى لها سلوكًا منافيًا للأخلاق. فحُسن الخلق، أي الواجب، يفعله الإنسان لأنه يحترم نفسه ويحترم الإنسانية في شخصه.

لا حساب للمنفعة الشخصية في الفعل الأخلاقي، وهذا ما يميز فلسفة كانط الأخلاقية عن فلسفة المنفعيين. ففلاسفة المنفعة العامة يؤسسون فلسفتهم الأخلاقية على ما يعتبرونه النزوع الأساس للإنسان، فهو بطبيعته يطلب اللذة ويتفادى الألم. لكنهما ليسا فرديين أنانيين لأن الإنسان يعيش في مجتمع، لذلك ففلسفتهم الأخلاقية هي فلسفة المنفعة العامة. فالأخلاق تتوخى أكبر قدر ممكن من المنفعة لأكبر عدد ممكن من الناس. والسعادة التي ليست عند كانط غاية للفعل الأخلاقي جعلها أصحاب المنفعة غاية فلسفتهم الأخلاقية. وهي سعادة دنيوية، أي تحصيل المنافع للعدد الأكبر من الناس في مستوى المعيشة والحرية والثقافة. وهدف النظام السياسي هو تدبير المنافع العامة.

الأخلاق في عالم متشابك

حين قال كانط إن الإنسان وهو يفعل الواجب فكأنه يشرّع للإنسانية، فإن الإنسانية في عصره لم تكن متواصلة ومتشابكة كما هي اليوم بسبب ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعرفة وعولمة العالم. فلأول مرة في تاريخها تواجه الإنسانية جميعها تحديات مشتركة، فأصبح مستقبلها رهينًا بنوع استجابتها لهذه التحديات.

لكن هناك مفارقة: وهي أنه في الوقت الذي أصبح فيه العالم متشابكًا على نحو غير مسبوق، هو الوقت نفسه الذي تراخى فيه التضامن. والمثال على ذلك هذه الجائحة التي ضربت العالم برمّته. فالتضامن بين الدول في مواجهتها هزيل، وكل دولة هي عمليًّا تدبّر بمفردها جائحتها. ووسائل الدول المسماة بالنامية لمواجهة الجائحة أضعف بكثير من وسائل الدول المتقدمة. ومنظمة الصحة العالمية لا تملك سوى تقديم الإحصائيات والتوقعات والنصائح. وهكذا تراخى التضامن الذي هو ليس فقط مبدأ أخلاقيًّا وحسب، بل ضرورة عالمية.

هذا أولًا، وثانيًا فإن العالم الذي أصبح معولمًا لم يسبق له أن عرف مثل هذا التفاوت الذي هو عليه اليوم في الثروة والمعرفة، هذا في الوقت الذي سادت فيه الليبرالية الجديدة التي تعتبر أن العدالة الاجتماعية هي من مخلَّفات عصر الأيديولوجيا، في حين أن العدالة الاجتماعية أصبحت قضية القضايا نظرًا للتفاوت الاجتماعي غير المسبوق. صحيح أن تقدّمًّا قد حصل في محو الأمية وانتشار التعليم، وتقلصت نسبة وفيات المواليد، وزاد معدل الأعمار والأمل في الحياة، وتحسّن الدخل الفردي في أغلب البلدان، وحصلت النساء على حقوق مع تفاوت بين الدول. إلا أن التفاوت مايزال كبيرًا في الثروة والمعرفة. فالثروة متداولة بين أيدي قلّة قليلة. وليس هناك عدالة في نظام التربية والتعليم بسبب انشطاره إلى تعليم خاص لأبناء وبنات الأُسر المحظوظة، متميز ببرامجه ومستوى معلميه وأساتذته ونوعية تجهيزاته، وخرّيجوه مطلوبون في سوق العمل في القطاعين العام والخاص. وتعليم عمومي في مدارس وجامعات الدولة، خرّيجوه والمتسربون منه إما يحصلون على وظائف ومهن متواضعة أو يُلقى بهم إلى البطالة. وهكذا فالتعليم الذي كان يُعوّل عليه في الترقية الاجتماعية والمهنية وتوسيع قاعدة الديمقراطية أصبح يكرّس نوعًا من الطبقية المعرفية.

وموضوع آخر استجدّ على الفكر الأخلاقي في زمننا الحاضر، وهو التقدم العلمي والتكنولوجي الذي اخترق مجالات تُهدّد هوية الإنسان، كما تهدد مستقبل الإنسانية.

لقد ارتبط التقدم في العصر الحديث بالتقدم العلمي، والذي بفضله أصبح الإنسان أكثر سيطرة على الطبيعة ويسخّر العلم من أجل حياة أفضل وأيسر. إلا أن التقدم العلمي أصبح يشكّل خطرًا في مجالين على الخصوص: الهندسة البيولوجية والذكاء الاصطناعي.

فالتقدم العلمي في الهندسة البيولوجية جعل ممكنًا التحكّم في الجنين ليولد الإنسان ولادة مهندَسة سلفًا، فيتكون تكوينًا لا اختيار له فيه، بدل أن يولد ولادة طبيعية. وأصبح من الممكن تغيير لون الشعر، ولون العينين، وطول القامة بل وجنس الوليد، وذلك بتحوير جين أو تعطيله. فتلاشت الحدود بين الصدفة والاختيار.

هناك طبعًا منافع في الهندسة البيولوجية، فبفضلها أصبح ممكنًا القضاء على أمراض وراثية، كما أمكن بفضلها تحسين نسل الحيوان والمنتجات الزراعية. لكن التقدم في الهندسة الجينية يثير مشكلات أخلاقية وقانونية، فهل يجوز للإنسان أن يصنع الإنسان؟ وهل له الحق في التحكم في جينات الجنين ضدًّا على حريته وشكله في المستقبل؟ أليس من العنصرية إجراء انتقاء جيني مسبّق على البشر؟ أو لا بد من رقابة أخلاقية وقانونية على التقدم العلمي في الهندسة البيولوجية حين يتعلق الأمر بالإنسان؟

وموضوع أخلاقي آخر استجدته الثورة العلمية والتكنولوجية يتعلق بالذكاء الاصطناعي. إن لهذا الأخير إيجابياته من حيث رفع حجم الإنتاج وسرعته ودقته قياسًا إلى عمل الإنسان، وتجلي ذلك في تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات كالطب حيث يتم التشخيص الدقيق آليًّا وعن بعد، وأيضًا في مهن كالقضاء والمحاماة. فمباشرة الملفات آليًّا تتطلب وقتًا أقل ودقة أكبر قياسًا إلى مباشرتها تقليديًّا من طرف القضاة والمحامين وأعوانهم.

لكن لتطبيق الذكاء الاصطناعي أضرارًا لأنه يحل محل الإنسان فينشر البطالة، خاصة بين الذين لا يملكون المهارات المتقدمة. ثم أن الروبوتات ليست كالعمال إذ لا عطلة لديها ولا إضرابات. ثم أن مواقع كبرى مثل غوغل، ونيتفليكس، وتويتر، وفيسبوك وإنستغرام تسبر ميول مستعمليها فتتيح للشركات الإشهارية تجميع معطيات عن ميولهم لاستهدافهم في إعلاناتها.

والذكاء الاصطناعي يتخذ قرارات. فهل يمكن تحميله المسؤولية في قراراته؟ فالسيارات التي تساق آليًّا تبرمج لمواجهة الحوادث. فهل هناك مسؤولية قانونية وأخلاقية حين تبرمَج لصدم شيخ بدل طفل، وفرد بدل حشد، لاسيما إذا أصبح الذكاء الاصطناعي أذكى من الذكاء الإنساني، يبرمج نفسه ويستقل بقراراته عن الإنسان فيفلت من التحكم في برمجته؟

وموضوع آخر مستجدّ في فلسفة الأخلاق، وهو أخلاقيات البيئة. ويتعلق الأمر بالموقف من الطبيعة. فقد كان هدف الفلسفات الأخلاقية تهذيب الطبيعة في الإنسان بلجْم غرائزه بمبادئ الأخلاق. ثم أن فكرة التقدم ارتبطت بالتقدم العلمي في السيطرة على الطبيعة، إلا أنه أدى إلى استنزافها. إضافة إلى أن اتساع العمران وتضخم المدن، والإفراط في التصنيع، والانفجار الديموغرافي، كل هذا أدّى إلى إنهاك الطبيعة، وتناقص المياه وفسادها، وتلوث الهواء ومياه البحار والأنهار، وانقراض أنواع من الحيوانات، واستئصال أشجار الغابات التي تمتص ثاني أكسيد الكربون، وانقراض العديد من حيوانات الغابات، وما بقي منها يحتك بالإنسان فيسهل تناقل الأوبئة بين الحيوان والإنسان. وهكذا اختل التوازن بين الإنسان والطبيعة، فتواترت العواصف والفيضانات وحرائق الغابات.

لقد فرضت أخلاقيات جديدة نفسها في علاقة الإنسان بالطبيعة والبيئة. ليس الإنسان هو مركز الكون وغايته والطبيعة موضوع استغلال بلا حدود ولا قيود، بل إن للطبيعة وكائناتها الحية من نبات وحيوان قيمتها الذاتية. وأخلاقيات البيئة الطبيعية تقتضي احترامها وحفظ توازنها. وحتى لو هزّ بعضهم كتفيه استخفافًا بأخلاقيات البيئة، فإن طريقة التعامل مع البيئة يرهن مستقبل الأجيال ونوعية الحياة، بل وجودها على الأرض.

وهكذا اتخذت المسألة الأخلاقية اليوم منحى جديدًا بسبب التقدم العلمي خاصة في مجال الهندسة الحيوية والذكاء الاصطناعي، وبسبب التهديد المحدق بالبيئة والذي فرض تغيّرًا في تعامل الإنسان مع الطبيعة لضمان نوعية الحياة بل بقائها. فحين قال كانط إن الإنسان وهو يفعل الواجب الأخلاقي فهو يشرّع للإنسانية جمعاء، فإن الإنسانية في عصره لم تكن حقيقة واقعية متشابكة كما هي في عصرنا الحاضر الذي تواجه فيه الإنسانية برمتها تحديات التطور العلمي في مجال الهندسة البيولوجية، والذكاء الاصطناعي، واستنزاف البيئة الطبيعية الذي يهدّد نوعية حياة الإنسان ومستقبل الأجيال، والتفاوت الصارخ في الثروة والمعرفة. وكل هذا يقتضي أخلاقيات جديدة لعالم اليوم.