الموقع تحت الإنشاء

النسخة التجريبية من موقع النهضة العربية (أرض)

The Website is Under Construction

This is beta version of ARDD's website

الحرية والدولة في مسارات التغيير السياسي العربي، بقلم السيد ولد أباه، المفكر الموريتاني وعضو مجلس الأمناء

مشاركة

لا نفتأ نسمع في أيامنا الحسرة على الأنظمة التسلطية التي حكمت عدة بلدان عربية تعيش راهنًا أوضاعًا كارثية، كما هو شأن العراق، وليبيا واليمن.
وهكذا يغدو السؤال المطروح متعلقًا بالاختيار ما بين النظام والأمن مع الاستبداد من جهة، أو الحرية والتحرر مع الفوضى من جهة أخرى.

نلمس هنا جانبًا أساسيًّا من إشكالية الحداثة السياسية التي طرحت في الأصل معضلة العلاقة المعقدة بين الحرية والعنف، إلى حد أن فيلسوف الحداثة الأكبر توماس هوبز أسس لمفهوم الشرعية المدنية القانونية القائم على التنازل الطوعي عن الحرية الذي هو مضمون سيادة الدولة المطلقة من أجل الخروج النهائي من حالة الطبيعة التي هي وضعية “حرب الكل ضد الكل”.

ومع أن الصياغة الليبرالية الديمقراطية التي سادت في أوروبا كرست التماهي بين النظام الانتخابي التعددي ومثال الإرادة المشتركة للأمة، إلا أن الفكر السياسي والاجتماعي لم يفتأ ينبه إلى ما يواكب السلطة السياسية مهما كانت طبيعتها من غبن، واستغلال وتسلط. وتكفي الإشارة هنا إلى التقليد الممتد من ماكيافيلي إلى ماركس في تصوره الصراعي الصدامي للسياسة والدولة.

هل الدولة إذن تعبير عن الحاجة الموضوعية إلى النظام المدني كما ذهب إلى ذلك أرسطو، أو هي حصيلة عقد اجتماعي توافقي كما رأى روسو، أم هي حالة سيطرة وتسلط وخنق للحريات ولو من خلال ديكتاتورية الأغلبية التي اعتبر ألكسيس دي تكوفيل أنها الخطر الذي تؤول إليه الديمقراطيات الليبرالية دومًا؟

يجيب الفيلسوف المعروف بول ريكور على هذا السؤال، في مفهومه “المفارقة السياسية”، وهو يعني هنا أنه يمكن تصور الدولة في منطقها العقلاني من حيث هي الإطار الضامن للحريات والحقوق، لكنها لا تخلو في الآن نفسه من شوائب العنف والهيمنة التي قد تؤدي بها إلى العسف والاستبداد، فيغدو من الطبيعي الخروج عليها والوقوف ضدها.

في الحالتين، تكون الحرية حاضرة بقوة، ذلك أن موضوع السياسية المحوري هو الحرية “سواء كانت الدولة هي التي تؤسس الحرية عن طريق العقلانية أو كانت الحرية هي التي تحد نوازع السلطة عن طريق المقاومة”.

في الديمقراطية يتلاءم بعد السلطة وبعد الحرية من خلال سياسات التعايش التعددي ونظام الفصل بين السلطات، فلا تقهر المؤسسات العمومية إرادة المواطن الذي يمتثل للقانون والمعايير النظامية بطواعية وقبول.

بطبيعة الأمر، لا يمكن نكران أن الدولة باحتكارها “العنف العمومي المشروع” حسب عبارة ماكس فيبر الشهيرة، تختص في الواقع بحق القتل والعقوبة وفي بعض الأحيان تفرض على مواطنيها التضحية بأرواحهم من أجلها (مثل أوضاع الحروب الدفاعية)،كما أن الخروج عليها قد يؤدي بالفعل إلى النكوص إلى حالات العنف الجذري الأسوأ من طغيان السلطة الحاكمة.

ومن هنا، تعقد المفارقة السياسية على خط التصادم بين الحرية والأمن ،الذي طرح بقوة في الفكر السياسي المعاصر في إطار النظر في مفهوم “الشرعية الثورية” كما قننته الثورات الكبرى التي عرفتها العصور الحديثة من الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، إلى انتفاضات التحرر التي عرفتها مناطق كثيرة من العالم بما فيها العالم العربي الإسلامي.

من المعروف أن مفهوم “الثورة” يتعارض في الجوهر مع مطلب “الشرعية”، ويطرح إشكالات عصية بخصوص الإرادة الجماعية التي تعبر عن نفسها عادة في نظم مدنية قائمة. مقولة الثورة تحيل إلى مبدأ الحرية السلبية (أي حق التمرد وعدم الإذعان)، ومفهوم الجمهور بصفته كتلة هلامية لا وجه لها ولا ممثلًا يجسدها، فهي إذن تتعارض مع أي تصور سيادي تمثيلي للدولة. ومن هنا صعوبة ترجمة الحالة الثورية في بناء سياسي منظم، كما أدرك الفيلسوف الألماني هيغل في قراءته للثورة الفرنسية من حيث كونها لا بد من أن تفضي إلى العنف الدموي نظرًا لاستنادها للمقاربة السلبية للحرية بصفتها مطلقًا لا سبيل للتعبير عنه موضوعيًّا. كما أن مقولة “الجمهور” لا يمكن أن تتلاءم مع فكرة الجسم السياسي المنظم الذي هو بالضرورة طبقات وفئات اجتماعية متنوعة ومختلفة المصالح، تتعايش وفق قواعد متوازنة دقيقة في دولة شاملة.
لقد مر العالم العربي بهذه الإشكالات العصية ولا زال يدفع غاليًا ثمنها. لم تكن الجمهوريات التسلطية المهزومة حالات سياسية مستقرة وعادلة، على الرغم من الحنين إليها لدى قطاع عريض من الناس، بل كانت تقوم على إنتاج العنف وإدارته إلى حد ما أطلقت عليه الفيلسوفة الألمانية-الأمريكية حنة أرندت عبارة “ابتذال الشر” (Banality of Evil)، وهي تعني بها استيعاب واستبطان التسلط والاستبداد إلى حد أن يصبح هذا الحال وضعًا طبيعيًّا لا يثير جدلًا ولا اعتراضًا.

ما يميز الأنظمة التسلطية الحديثة (الكليانية أو التوتاليتارية) هو أنها لا تقوم على الديكتاتورية الفردية المسلطة على الأفراد، بل تتعامل مع الكتلة الجماعية كجسد ميكانيكي دون روح يخضع من خلال التحشيد الأيديولوجي والدعاية الإعلامية للترويض، والرقابة والتحكم. ليس إذن نمط الانتظام السائد في الدولة التسلطية نتاج عقد اجتماعي أو إدارة عقلانية للحقل السياسي، بل مرتكزه هو ما عرف في الأدبيات الاجتماعية “بالعبودية الطوعية” التي تنتج عن ثنائية الخوف والتمويه (أي تضليل الوعي والتلاعب به). في هذه الحالة، تغيب الحرية كليًّا سواء نظرنا إليها من حيث محددات الوعي والتعقل، أو من حيث دوافع الإرادة والفعل.

 

ما يحدث في اللحظة الثورية هو بروز الحرية في صورة التمرد وعدم الخضوع، بما قد ينجر عنه البحث المثالي اليائس عن وضع سياسي مطلق التحرر وهو شعور مدمر للفعل السياسي الذي يتطلب الحلول التوفيقية والتوافقات المصلحية المحدودة.

في البلدان التي مرت ثقافيًّا واجتماعيًّا باللحظة الليبرالية، عادة ما يتم تجاوز الذاتية الفردية الضيقة في إطار منظومة اجتماعية متماسكة، وفي الساحات التي لم تعرف هذه الحالة -كما هو حال مجتمعاتنا العربية- يصبح الهدف مضاعفًا والثمن باهظًا: التحرر الفردي والجماعي معًا، وبناء المجتمعات والدول في الآن نفسه.